رواية "الرعب": تحدّي آلة الموت في غزة

يتقاسم بطولة رواية "الرعب" الممرّض "فرج أبو العُوف" الّذي يتنقّل بين معظم مستشفيات غزّة يُداوي الجرحى ويحاول إنقاذهم ويمسح على أحزانهم، و"سلام" الصّحفيّة الّتي تنقل ما تشاهده من فظائع وترافق "فرج" في مسيرته الطّويلة.

  • لا هدنة مع الموت في غزة  في رواية
    لا هدنة مع الموت في غزة في رواية "الرعب" لـ أيمن العتوم

في رواية "الرعب - حكاية الحرب على غزة" الصادرة عام 2024 والتي فازت بجائزة فلسطين للآداب العالمية، في دورتها الثانية، والتي أقيمت في العاصمة العراقية بغداد، يسرد لنا أيمن العتوم تفاصيل الحرب على غزة في السنتين الماضيتين وعلى مرأى من العالم المتحضّر باعتبارها عملية إبادة يندى لها الجبين لشعب أعزل، عدو ديدنه الكذب والافتراء ولا تفوته صياغة سردية ملفّقة عن مبرّراته عن ذلك الجحيم، الذي لا تهدأ نيرانه المتقدة ولا حممه المتفجّرة التي يسقطها مراراً وتكراراً غير عابئ بإزهاق حيوات نساء وأطفال وشيوخ كهلة، عالم من الهول والرعب لا يكاد يصدّق وما من معجزة توقف نهر الدماء الجاري وكأنه ماء. 

صرخات الضحايا؛ أشلاؤهم المتناثرة؛ وجوههم المغطاة بالدم؛ فمن لم تقتله طائرات الموت قتله مشهد فقد أحبائه أمام ناظريه وهو عاجز عن الصدّ والردّ، وشيء مبتكر في حروب اليوم وهي "الزنّانات" أي المسيّرات أو طائرات الاستطلاع التي تقوم بتصوير وتعقّب كلّ شيء، محمّلة بأهداف غادرة حيث تلقي بالنار على كلّ ما يتحرّك، وحيث تتوالى المصائب وتمحي كلّ مأساة ما قبلها لأنها أقوى من سابقتها، لبشر يسيرون من الموت إلى الموت وهم لقمته السائغة وما زال أسوده الطاغي يخيّم على المكان. 

يتقدّم السرد على لسان فرج أبو عوف وهو الناجي الوحيد من أسرته فقد دمّر صاروخ بيته وقضى على أمه وأبيه وإخوته، وكذلك على زوجته أنيسة أيامه "رجاء" التي يعشقها بكلّ حناياه، وهو الذي لم يعد يعرف طعماً للعيش بعد رحيلهم، واعتكف لا يبرح مكانه طيلة أربع سنوات يائساً من الحياة وزاهداً بكلّ شيء إلى أن تفجّر الوضع في غزة، وصارت القذائف وأصوات دكّ المنازل على رؤوس أصحابها تصمّ الآذان. 

كلّ هذا وهو ذاهل عمّا حوله ليأتيه صوت زوجته رجاء في الحلم معاتبة إياه على قعوده، ومطالبتها بأن يعود إلى إنقاذ من تبقّى من أهل مدينته والعمل على إسعافهم وتضميد جراحهم، وهو الممرض الكفؤ راسمة له خطواته المقبلة وكأنها صوت الأمل أو صوت الضمير الداخلي الذي يهزّه "انهض وافعل ما كان واجبك أن تفعله عندما قصفوا بيتنا في عام 2019 وكان عليك أن تحمينا في وقتها، إنّ جراحهم جميعاً هي جراحك والدفاع عنهم بوابة اللقاء بيني وبينك وهدم الجدار الذي يقف بيننا". نعم هي محاولة للحفاظ على ذكراهم وهي وسيلة الاتصال بين عالم من قضوا وبين من بقوا، وكأنه حوار مع المجهول "مع رجاء" حوار العقل والوجدان والضمير. 

بعد الانهيار يأتي التحدّي تحدّي آلة الموت والدمار ليعاود فرج نشاطه الإسعافي من قلب الدمار حيث يرصد بعينيه كيف تُقصف المشافي ويستشهد مرضاها وممرّضيها ودكاترتها وكادرها الطبي، من مشفى الشفاء إلى مشفى مرضى السرطان إلى مستشفى شهداء الأقصى وهو موزّع بين السجون وبين ركام المشافي المستهدفة، وبعينيه يرى كيف أزيلت أربعون عمارة بالكامل في مربّع سكني وكيف سوّيت جامعة الأزهر بالأرض مع مدارس الأطفال، وكيف قصف حي الزيتون والشجاعية والدرج وأهله يصرخون لا نريد لا خبزاً ولا مساعدات نريد إيقاف الحرب فقط.

حيث يشابه العتوم ما أسقط على غزة من متفجّرات بأنه يعادل ضعف القنبلة النووية التي أطلقت على ناغازاكي وهيروشيما.

  الجوع هو السلاح القاتل بعد الموت والتهجير والخوف من تفشّي الأمراض الناجمة عن تحلّل الجثث، ومن نجا من القصف بات وحيداً في معركة الجوع، حيث نقص الغذاء وانعدام الدواء فالجوع والعطش سلاح العدو الثاني في الإبادة الجماعية. ويبرز حوار الطفل الناجي بين الركام "عمو أنت ملاك من السما.... لا أنا فرج... عمو فرج أنا بدي استشهد.... ليش ...لأني جوعان بدي آكل خبز وقالولي بالجنة في خبز.. صح عمو". 

حيث صار الطعام حلماً لطفل، أية مهزلة!!  

زكريا ابن الثانية عشرة وبعد أن فقد كلّ أهله صار المشفى وكادره أهله وأصبح ابناً لفرج ومساعداً مهمّاً في عمليات الإسعاف، عندها يبرز التحدّي في مواجهة الموت بأنّ نفوسنا عالية فأجسادنا عبء على أرواحنا، لا خوف إن راحت الأجساد فالأرواح تتطاير إلى السماء في نوع من التناص مع قول أبي الطيب المتنبي:

  وإِنِّي لَمِن قَومٍ كَأَنَّ نُفوسَنا                      بها أَنَفٌ أَن تَسكُنَ اللَحمَ والعَظم

في جانب من النصّ يظهر الصراع وكأنه بين إسلام ويهود، لاستنهاض دعم مسلمي العالم بلا فائدة، وربما قد نعترض على هذا الطرح لأنّ الصراع الأساسي بين صاحب حقّ ومغتصبه؛ بين محتلّ وصاحب أرض ولمصلحة العدو هذا الفرز الديني إذ لطالما وصمت المقاومة بالإرهاب الديني لتسهّل على العدو معركته الإعلامية بإظهارهم إرهابيين، وهذا يخلق حجّة لدى الرأي العامّ بالصفة التي أخافت العالم "الإسلام فوبيا" نتيجة عمل المتطرّفين في الخارج، ولتكون عليهم حجّة في قول مبتذل "أنتم أشعلتموها وعليكم أنتم أن تطفئوها". ففكرة المسلمين والعرب مقابل اليهود وكأنها معركة دينية، وفي الحقيقة هي تلبس لبوس الدين والدين منها براء، هي معركة استيلاء على الأرض وحقوق الغير عبر قتلهم وإبادتهم. 

في جانب من العمل لا يلقي اللوم على أحد وإنما يعلن يأسه من الأشقاء العرب الذين لا تصدر عنهم نأمة أو نفس ولا يرفّ لهم جفن وكأنّ ما يجري لا يجري على بشر بجوارهم، ويصبّ نقمته العارمة على مسؤوليهم من يأتون بالأكفان ليغسلوا ضمائرهم بعد موتهم والعالم بأجمعه يتفرّج صامتاً عن شلّال الدم النازف. 

ويورد أيضاً شهادات من قاطني المشفى، مشفى الشفاء، على ما جرى ويجري مع كلّ منهم كرسائل إلى العالم الصامت عن المقتلة المستمرة، إذ يحاول أيمن العتوم توثيق يوميات العذابات المستمرة لأهل غزة، ولا ينسى تضحيات النساء الغزاويات اللواتي طحن الحصى مع دموعهن خبزاً في جائحة جوع غير مسبوقة، حيث بنين فرناً لصنع الخبز بعد أن قصف العدو الأفران الموجودة في غزة بحرب غير متكافئة مع عدو يملك كلّ أدوات الإبادة ضدّ أناس عزل. 

وبالتوازي يظهر خيط من المودّة يتسلّل بين فرج والصحافية سلام عبر عبق الخبز والقهوة وحوار الخير والشرّ بينهما أيهما أصيل في الإنسان وأيهما عارض، لتكون نموذجاً عن النساء الغزاويات التي تعمل بالصحافة على خط النار تارة وتارة أخرى تخبز وتصنع القهوة، ليكون لقاؤهما بزواج مبارك أنيس رحلة الرعب والتهجير وطفلهما القادم بذرة الأمل المتبقّية في علم الغيب.

  في النهاية أجبر الجميع على التوجّه جنوباً وفق ممرّ اختير لهم، ولكن حتى الممرّ الآمن الذي اختاره الصهاينة لأهل غزة كان محفوفاً بالرعب، فقد كانوا يقتلون كلّ من يتلكأ أو ينظر أو يعجز عن السير، وفي النهاية أجبروا راكبي السيارات على النزول منها ولم ينفع ذلك بل دفعوا بالنيران إلى السيارات وسائقيها بعد ذلك، من يموت تحت القصف ومن يموت لتتعفّن جروحه بسبب نقص الإمدادات الطبية وكوادر الإسعاف، وصار من أكثر الأمور رفاهية لأيّ شهيد أن يحظى بجسده كاملاً كي يدفن معه هذا إذا كان له حظ بأن يدفن. 

لا يحتاج العدو إلى ذريعة كي يتفنّن في أساليب الموت والتعذيب، ولعلّ المقاومة هي الحجّة التي يرفعها بوجه أهل غزة، وقد تختصر مقاومتهم ببقائهم على قيد الحياة رغم تقلّبهم من جحيم إلى جحيم. 

"الرعب" هي الرواية الممتدة بين الورق وبين الواقع، عن غزة المدينة الشهيدة، سحقاً لكلّ حقوق الإنسان التي يتشدّقون بها، سنتان من الجحيم المتجدّد وصراخ الضحايا يعلو ويصمّ الآذان "إلى متى سنظلّ نقتل والعالم يتفرّج، وإلى متى نكون إما شهداء ماضين أو شهداء آتين". 

اخترنا لك