رواية "العاصي": الأدب يحلّق فوق أسوار سجون الاحتلال
زهرة شبابه أمضاها الكاتب سائد سلامة في الأسر ضمن معتقلات العدو، وأدانته محكمة الاحتلال الإسرائيلية بتهمة الانتماء للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومشاركته في خلية عسكرية، وهو المقدسي الحائز على شهادة البكالوريوس من جامعة القدس وما زال يكتب ويكتب.
-
رواية العاصي لـ سائد سلامة
يحفل أدب السجون بالكثير من الهموم الوجدانية والطاقات الإبداعية والتأمّلات الفكرية وكلّها وليدة القهر والظلم والحقوق المسلوبة، وقد تعرّف قرّاء العربية إلى العديد من الأقلام المهمّة والجريئة وخاصة أولئك الواقعين في عين الخطر وفي قلب المعمعة أسرى المعتقل وحبيسي الجدران المصمّتة، وليس آخرهم صاحب جائزة البوكر الأسير باسم خندقجي عن روايته "قناع بلون السماء" التي حاز عليها عام 2024، مما يؤكد أنّ سجون العدو تخفي جدرانها شعلة هامّة من المبدعين وأصحاب الفكر. فهذا سائد سلامة يطلّ علينا بروايته المكتوبة في السجن "العاصي" والتي صدرت عن دار الفارابي عام 2022 وقد هُرّبت عن أعين الرقيب، "سلامة" المعتقل مدة أربعة وعشرين عاماً لاتهامه بالتصدّي لقوات الاحتلال والقيام بتفجيرات في أماكن مختلفة.
منذ البداية يلفت الأنظار بالعتبة النصّية "العنوان" في إثارة التساؤل والإشارة للمعنى في الوقت ذاته فمن هو المقصود بـ "العاصي"، أهي شخصية البطل التي تسير عكس التيار وكما هو نهر العاصي يسير عكس الأنهار الموجودة في زمن فقد كثيرون الحماس للنضال والتحرير، وبهتت أحاسيس الكفاح ومقارعة الظلام لدى البشر جرياً وراء لقمة العيش، بالإضافة إلى الكمّ الكبير من الخيبات المتكرّرة التي عصفت بالقضية وشعاراتها.
تبدأ خطوات البطل ساري متضمّنة معنى الاسم وهي كناية عن السائر ليلاً وما يختزنه في مضمونه عن التخفّي والسير تحت جنح الظلام، عندما تقضّ مضجعه الإهانة التي تعرّض لها على أحد الحواجز والشتيمة التي صدرت من أحد الجنود الداعية لقتله كحيوان منبوذ، ومن المؤكّد أنّ الإهانة تتكرّر مع العديد من أقرانه في بلادهم وعلى أرضهم، الأمر الذي يدفعه للقيام بعملية فدائية انتقاماً لكرامته وشكلاً من أشكال الكفاح بإيقاع أيّ خسارة بصفوف المحتل، تجرح يده خلال العملية ويتعرّض على أثرها للملاحقة من قبل استخبارات العدو وقوّاته المدجّجة بكلّ العتاد والأسلحة، وهنا تبدأ رحلة العذاب والتشرّد والجوع والنوم في الأزقّة والعمارات الفارغة قيد الإنشاء وتبكيت ضميره لما تعرّض له أبوه وأخواه من الاعتقال والتوقيف وكذلك سائر أقاربه، وانكفاء الناس عن الدعم والمؤازرة لتاريخ من الخذلان والخيبات، والحاضنة الشعبية للفعل المقاوم التي تتناقص بالتدريج حصيلة لليأس من الحكومات والقيادات، حين يتخلى عنه الجميع أو عندما يصبح فأل شؤم على من ينتمي إليهم بصلة قربى ومن هذا المشهد يصوّر التخلّي والتنصّل منه حتى من أقرب الناس وتعرّض أهله وأقاربه للتنكيل والملاحقة ورفض المستوصفات والمشافي المحلية إسعافه، والكلّ يحاول الحفاظ على أمانه الشخصي في بلد لا أمان فيه لأحد.
إقرأ أيضاً: الأسير سلامة يحطم برواياته سجن جلبوع
مما يدعونا للتساؤل عن مآل البطولة الفردية سواء في طعن مستوطن أم القيام بتفجيرات لدى العدو هل بقيت هي الحلّ الوحيد نتيجة اليأس من حلول جماعية، من الأكيد أنّ الفعل الفدائي يقضّ مضجع العدو ويؤرق أمنه، ورغم أنه يبقى فعلاً فردياً ضمن تغوّل القوة لعدو غاشم، لكنه يعيد من جديد طرح الأسئلة عن ماهية السبيل وما هو أسلوب المواجهة، سؤال يعيد الواقع إنتاجه من جديد عند كلّ خيبة أو انكفاء، ولكن سائد سلامة يجيب من داخل العمل، الأمل بالشباب، رفاقه الشباب الذين تجمّعوا وتنادوا وتآزروا لحمايته وتدبير طرق الهروب والنجاة له رغم الخطر وانسداد الأفق ووقوعه أخيراً في قبضة الاحتلال.
يؤكّد الكاتب صفرية الزمن حيث تتوقّف عقارب الساعة عن الدوران ويبقى البطل مقيّداً بهروب لا فكاك منه إلا بالموت، الموت الذي يطارده وقد يتأخّر حدوثه قليلاً ولكن النهاية مقبلة والوقوع في شباك العدو لا فكاك منه، لذا لا يتوقّف كثيراً عند النهاية التي تبقى مفتوحة لكلّ الاحتمالات، وإنما أفرد مساحة كبيرة لرحلة مطاردته وتشرّده وخذلانه وكلّ اعتقاده أنّ أبناء جلدته سيفخرون ويتباهون بما فعله، ولكنّ الواقع المرير الذي أفرغ الجموع من حماسها، وتوالي الهزائم المتكررة جعل اليأس والقنوط نتيجة مباشرة لطعم الحنظل الذي تجرّعوه مراراً.
ليتلمّس شاب آخر طريقه ويتقصّى خطواته والأماكن التي تشرّد فيها والجوع والبرد الذي عاناه، وليعيد قراءة الحكاية وكأنه السيالة التي تضيء لمن يأتي بعده بأنّ طريق المواجهة والرفض ما زال مشرّع الأبواب، إذ يعيدنا الكاتب بعد رحلتنا مع البطل للتأكيد أنّ ما نقرأه حكاية متخيّلة في مخاتلة منه لكسر الإيهام وتنبيه القارئ أنه بصدد حكاية عبر ظهور الشخصية الثانية "نادر" التي تتقرّى نضاله وحياته وتاريخ مروره على الأمكنة وعلاقاته سواء مع صديقه بائع الشاي أو الصبية التي أهداها ساعة الزمن، ويظلّ القارئ في حيرة هل ما حصل حدث فعلاً أم هو حكاية وواقع روائيّ موازٍ.
إقرأ أيضاً: باسم خندقجي: رواية بلون السماء
زهرة شبابه أمضاها الكاتب سائد سلامة في الأسر ضمن معتقلات العدو، وأدانته محكمة الاحتلال الإسرائيلية بتهمة الانتماء للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومشاركته في خلية عسكرية، وهو المقدسي الحائز على شهادة البكالوريوس من جامعة القدس وما زال يكتب ويكتب، إذ تضمّن نتاجه الأدبي مجموعتين قصصيتين وهي "عطر الإرادة" و "للحلم بقية".
و"العاصي" هي رواية الأسير وهو يرسم السجن الكبير في الخارج حتى ليحار المرء من هو الحرّ ومن هو المقيّد، في إيماءة وجودية لمعنى الحرية وماهيتها وهل من هم خارج المعتقل أحرار، فلأن استطاع المعتقل حصار الجسد فهو لم ولن يستطيع حصار الأفكار التي ما فتئت تحلّق فوق الجدران والأسوار، فإنّ للأفكار أجنحة ترفرف في فضاء الحرية.