سهيل القشّ في "المرآة المتكسرة": لبنان الكبير.. اختراع أمة؟

من المساهمات التي طرحها الكاتب، هي نقد السرديّة اللبنانوية التي خلقتْ (الأمة اللبنانية) فيشرح لنا معنى اللبنانويّة التي يقصدها: "اللبنانوية نزعة فكرية تدافع عن قومية لبنانية مبنية على الإيمان بوجود أمّة لبنانية مكتملة الصفات".

  • الكتاب: المرآة المتكسّرة - تشظّي الكيان اللبناني
    الكتاب: المرآة المتكسّرة - تشظّي الكيان اللبناني

من الكتابات القليلة، وربّما الوحيدة، التي نقرأها عن تاريخ لبنان تؤرَّخ بمنهج المعرفة. هكذا يكتب سهيل القش "المرآة المتكسّرة" متحدّياً طوباوية اللبنانيين موغلاً في المخيّلة التي أسستْ على الورق هذا الكيان، مفككاً بنيته الاجتماعية، مستلهماً الطروحات الفلسفية لوضع التاريخ اللبناني ومحيطه العربي أمام الفحص والنقد والمراجعة. انبرى سهيل القش لتأريخ لبنان والكتابة عنه مع تباين كبير بينه وبين مؤرخين آخرين حصروا – على رغم أهميتها - قراءة التاريخ بالوقائع والأحداث فقط، بينما لجأ القش إلى فلسفة التاريخ والبُعد النظري والأسس العلميّة التي بُني عليها تاريخ لبنان الحديث، لبنان 10452 كلم.

يذكّرنا عنوان الكتاب (المرآة المتكسّرة) برواية آغاثا كريستي The Mirror crack'd  - (المرآة المتصدّعة)، فيبدو العنوان شعرياً أكثر منه تاريخياً، لكن لا مكان  للمفارقة بين الرواية الأدبية والرواية التاريخية فكلا السرديْن يمتاز بميزة واحدة على ما يقول هايدن وايت في مؤلّفه الشهير "شعريّة التاريخ": ثمّة محتوى بنيويّ يكمن وراء المستوى السطحيّ الذي تبديه النصوص التاريخية، وهو المحتوى الشعري والألسني الذي يدعوه وايت بـ"العنصر الميتا تاريخي".

عمد المؤلّف إلى هذه الشعرية في افتتاحيّة كتابه مقتبساً التقريظ المتعارف عن لبنان، ليس بأوصافٍ جمالية فحسب، بل بالأوصاف الجلالية أيضاً، مثلما يقول في تعبيره" تزاوجٌ يضمّ في كنفه تنوعاً بشريّاً من أغنى ما عرفته الحضارات". الوقوع في التمجيد النقطة المشتركة بين معظم المؤرخين اللبنانيين على اعتبار لبنان وحيداً في نوعه فريداً في تميّزه، لكنّ الحقيقة الاجتماعية والحقيقة التاريخية تبدوان أبعد من ذلك كثيراً، فالعراق مثلاً يحتوي على أكثر من 10 إثنيات تتداخل فيها أديان ومذاهب شتّى لتشكّل أعداداً كبيرة من التمازجين الديني والإثني. وهكذا في سوريا وفي إيران وفي ألمانيا... الفارق البارز في ذلك أنّ لبنان الطائفيّ الذي تشكّل بعد صياغة لبنان الكبير وورث النظام العائلي (معني – شهابي) طفحتْ طائفيته بشكلٍ لافت، فأصبح اللبناني يُعرَّف بمذهبه لا بانتمائه الوطني، وكرّست ذلك "التنوّع" و"الفرادة" الحرب الأهلية الطويلة والتي ارتكزت بنيتها على الانقسام، طائفياً ومذهبياً.

على الرغم من هذا المفتتح الشعري، فإنّ الكتاب حافظ على منهجه النقدي والتحقيق في المسائل التاريخية، محدِّداً الأصول المعرفية والثقافية للتغيرات الاجتماعية اللبنانية، فوضعنا بداية أمام مشكلة "السرديّة اللبنانية"، التي اصطنعت مفهوم "الأمّة اللبنانية"؛ المفهوم الذي يعني أن المجتمع اللبناني "أمّة" ذات تاريخ واحد ممتدّة في القدم، وتمتلك ثقافة فريدة منبثقة من أصولها الإنسانية فحسب.

كيف اختُرع الشعبُ اللبناني؟ هذا ما يسأله سهيل القش ويجيب عنه أيضاً: مثلما وعد بلفور بقيام "دولة يهودية"، وعد كليمنصو البطريرك حويك (1843-1931) بإقامة لبنان الكبير (اختراع أمة)، وساهم في ذلك على نطاق واسع الاستشراق الأيديولوجي بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، بحيث أُطلقت على الموارنة صفة "الشعب الماروني" أو "الأمة المارونية"، الأمر الذي يعني، في جانب آخر، أنّ قرار تقسيم المنطقة طائفياً كان واضحاً في بداية المشروع الاستعماري الاوروبي للمنطقة العربية. ومع أنّ الانتداب الفرنسي فرض رؤيته الاستشراقية على لبنان وسوريا، وحاول تحديثهما على طريقته عبر تقسيمهما إلى دويلات طائفية، إلا أن محاولته اصطدمت بممانعة مكوّنات المجتمع السوري (الثورة السورية الكبرى) الذي رفض هذا التقسيم، في حين وجد الاستعمار في لبنان أرضاً خصبة ساعدته على بناء التقسيم الطائفي.

إن ولادة لبنان الكبير، أو بالأحرى الأمّة اللبنانية بالقيادة المارونية الأيديولوجية، بحسب سهيل القش، لا تنفصل عن نشوء الاستشراق، الذي جعل المعرفة ابتداعاً غربياً خالصاً، وخصوصاً بعد أن أدلى هيغل بدلوه، فخلق هذا الفيلسوف الالماني من لدنه شرقاً خيالياً.

إنها بداية ولادة شعب أو أمّة ميّزت نفسها أيديولوجياً وتاريخياً وفكرياً، ولغوياً أيضاً، لكن هذه الحكاية، كي تصبح سرديّة قابلة للتصديق، كما يرى سهيل القش، لا بدّ لها من تأسيسات نظرية وقانونية، فكانت وثيقة مؤتمر الرهبانيات اللبنانية ووثيقة أهل الميثاق والقلم المستندين الأساسين للسرديّة اللبنانويّة. وفي محطة سابقة، أعاد سهيل القش أصول اللبنانوية إلى ثلاثة مقومات أساسية: كلية روما المارونية (1548)؛ جمعية نشر الإيمان الكاثوليكي (1622)؛ لجوء الأمير فخر الدين المعني الثاني إلى إيطاليا (1613).

من المساهمات النقديّة الأساسية، التي طرحها الكاتب، هي نقد السرديّة اللبنانوية التي خلقتْ (الأمة اللبنانية) فيشرح لنا معنى اللبنانويّة التي يقصدها: "اللبنانوية نزعة فكرية تدافع عن قومية لبنانية مبنية على الإيمان بوجود أمّة لبنانية مكتملة الصفات". وإذا كان القش نسي تعريف السردية، فلا بدّ من أن نُقدم على شرحها لتكتمل فكرة تحوّل اللبنانوية إلى عقيدة. ربما في الإمكان القول إنّ السردية تقدّم نفسها على أنّها منظومة فكرية وقيميّة عامّة تفسر الطبيعة والمجتمع بصورة شمولية ونهائية، أو هي القصّة التي بنى عليها مجتمعٌ ما تاريخَه، ثقافياً ودينياً وسياسياً. إذاً، نحن أمام قصّة اللبناني الذي تمركز على ذاته وأضفى على نفسه بُعداً حضارياً نهائيّاً، حتى إنّ الذين هُزموا عسكرياً وسياسياً في الحروب الأهلية المتعاقبة لم تُهزم فيهم السردية هذه، وبقيت متجذرة أيديولوجيا وسط النخب السياسية والفكرية من الطوائف.

فما هو مضمون الوثيقتين السابقتين المؤسِّستين للبنانويّة؟ تنطلق هاتان الوثيقتان من عدة مسلمات، هي: التعدد الموجود في لبنان هو تعدد حضاري وليس طائفياً، وما من قوة استطاعت تغيير هذا الواقع المتعدد، الأمر الذي يعني أنّه أصيل وجذري، وإدراك بعض العرب أنه لا يمكن عزل لبنان عن واقعه العربي. وعلى رغم تناقض النقطة الثانية مع الأولى -كما يرى القش - فإنّ النقطة الاخيرة تُعَدّ الأهم والأبرز، وهي أنّ أهل الميثاق والقلم يَعُدّون لبنان مساحة روحية وليست جغرافية فحسب.

ذهب سهيل القش عميقاً في دراسة الاستشراق الأيديولوجي المؤسِّس للبنانويّة، انطلاقاً من استراتيجيات الاستشراق، التي تؤرخ تلقف المجتمعات العربية للحداثة الغربية، في مرحلتين: الأولى إنشاء مدرسة روما المارونية في نهاية القرن السادس عشر، والثانية حملة نابليون على مصر في نهاية القرن الثامن عشر. الأولى تتناول لقاء الحداثة الغربية بالمسيحية الشرقية، والثانية تتناول لقاءها بالإسلام.

عمل القش على تفكيك السرديات الاستشراقية، مُصرّاً على وجود استشراق علمي من دون توضيحه خلافاً لإدوارد سعيد، الذي أظهر الاستشراق أيديولوجياً فقط (في كتابه الاستشراق على الأقل). ووصل الاستشراق الأيديولوجي إلى كارل ماركس على رغم القول إن فلسفته تُعَدّ قطيعة معرفية مع التراث الغربي عموماً، وهو لم يفلح في تجاوز نظرته الدونيّة للشرق، وأسهب سهيل القش في طرحه للسردية الماركسية للاستشراق، لكنه أوغل كثيراً في شرح نظرياته الاقتصادية التي لا طائل في ربطها بالاستشراق، وبالتالي في ربطها بتاريخ لبنان، وبدا كأنّ فصل "السرديات الماركسية" فصل بحثي علمي مستقل.

وضع سهيل القش أربعة مفاهيم لقراءة الاجتماع السياسي اللبناني: المقاطعجي – الملّة –المدبّر – الطائفة. الثلاثة الأولى تنتمي إلى نظام اجتماعي إسلامي سابق للحداثة، بينما الطائفة تنتمي إلى نظام حديث يعود إلى القرن التاسع عشر مع انهيار النظام العائلي.

أرّخ لنا سهيل القش ظهور المارونية السياسيّة في شكلها الاستشراقي، لكنّ المفاجأة تكمن في قفزته النوعية من المارونية السياسية إلى الشيعية السياسية مباشرة، والتي وصفها بـ"حكومة صاحب الزمان" من دون المرور نهائياً بالسنيّة السياسية، أو بالأحرى الحريرية السياسية. كان غريباً على باحث ومؤرخ مثل القش الإهمال المتعمّد لهذه المرحلة الأساسية التي شكّلت منعطفاً خطيراً في تاريخ لبنان لجهتين إثنتين: الأولى صعود السنّة على حساب الموارنة بعد اتفاق الطائف (1989) فأُعطي الدّور الحقوقي والقانوني لرئيس مجلس الوزراء السنّي، وتم تجريد صلاحية رئيس الجمهورية الماروني، بتوافق أميركي سعودي (هنا العودة إلى مقولة القش: القطب والزّبون). والثانية، وهي الأخطر، مشروع الخصخصة الذي أسسه رئيس مجلس الوزراء الراحل، رفيق الحريري، فبدأت عمليات بيع الملكيات العامة للقطاع الخاص، وجعل القطاع الخاص نفسه مملوكاً من الطبقة السياسيّة. وللمرة الأولى اندمجت شخصية رجل الأعمال برجل السياسة، فكانت شركة "سوليدير" النموذج المؤسس لهذا النهج السياسي الاقتصادي الحديث.

الإشكالية الأخرى المطروحة على سهيل القش هي عدم قناعته بأن الطائفة السنية هي طائفة بخلاف الطوائف الثلاث: الشيعة، المسيحية، الدروز، بسبب انتفاء صفتها كأقليّة دينية مضطهَدة تاريخياً. ووضع هذا المعيار "الأقلّوي" بعد أن أقرّ تصنيف الشهرستاني في الملل والنحل، وهو تصنيف عقائدي أيديولوجي لا علاقة له إطلاقأً بالتركيبة العددية أو الاضطهاد التاريخي! 

والسؤال المطروح: هل وصل لبنان فعلاً إلى مرحلة الشيعية السياسية على غرار المارونية السياسية والسنية السياسية. هل ولدتْ الشيعية السياسية حقوقياً وقانونياً مثلما وُجدت "السياسية" في سائر الطوائف الأخرى، وهل أعطى القطب/ الأقطاب هذه الغلبة باتفاقيات وتوازنات فأضحت صلاحية القرارات في أيدي القيادات الشيعية مثلما حدث مع سائر القيادات الطوائفيّة؟

ولأنّ لبنان جزء من العالم العربي، ولا يمكن للبنانويّة أن تقطعه عن محيطه، سرد لنا سهيل القش تاريخ التوازنات العربية من زمن عبد الناصر إلى زمن حافظ الأسد، مروراً بفترة ياسر عرفات، التي عكست حجم التغيرات اللبنانية في وقتها، في تأكيد مستمرّ أن السلطة في لبنان إنما تعكس كالمرآة التوازنات القائمة بين الدول الأقطاب الإقليمية والقوى العظمى.

في فصل "المقتلة السورية"، حاول سهيل القش تفكيك "الحداثة السوريّة" (مرحلة حافظ الأسد حصراً) مرغماً إيّانا على الإيمان بادّعاءات من يقول بالحداثة السورية بمعناها الغربي على رغم أنّ هذه الادعاءات ليس لها أي تنظير جدّي، بل مجرد بروباغندا أتعب نفسه سهيل القش في تفكيكها مستعيناً بالفلسفة السياسية لحنا ارندت، فهل ثمة ما يستدعي وضع ثقل الفيلسوفة الألمانية لمعرفة إذا كان النظام البعثي الأسدي يتسم بصفة الشمولية؟ حاول القش أن يربط بين الشمولية الأوروبية والشمولية السورية بحذر شديد، لكن من دون جدوى، إذ انه سرعان ما ينقضّ على نفسه في تحليله العلمي، الذي لا يجد ما يربط بينهما من حيث البنية الاجتماعية لكلا المجتمعين الأوروبي والسوري، وخصوصاً في قوله إن التجربة السوفياتية الستالينية (وليست الأوروبيّة، إذاً) شكلت نموذجاً ثورياً لمؤسسي حزب البعث. 

لكن، لماذا أصرّ على إرجاع النموذج الشمولي للسلطة السياسية السورية إلى النماذج الأوروبية الحديثة وليس إلى النماذج العربية التقليدية. هل في ذلك طعن لأكثر من دولة عربية تجنّب سهيل القش الخوض في نقدها؟!

وفي حين عمل سهيل القش جاهداً في تحليل بنية المجتمع اللبناني، تجاهل تماماً الاجتماع السياسي السوري، وظل يراوح بين التاريخ السوري السياسي القديم والنظام السوري بقيادة حافظ الأسد، متجاوزاً بقناعته قراءات ماركسية اجتماعية متعددة، بينها قراءة سمير أمين، كونها غير صالحة وبعيدة جداً عن الواقع!

استخدم سهيل القش "المرآة المتكسّرة " تعبيراً سياسياً لوصف كيان لا قعر له، ولوصف دورٍ يعكس توازن القوى في الشرق الأوسط، ولوصف لبنان كتمثيل للفاعل الخارجي السياسي وليس للفاعل المحلي. إنّ مرآة سهيل القش اللبنانية هي مرآة متكسّرة يرى فيها لبنان كياناً متشظياً بفعل التنازعات الخارجية عليه. لبنان سهيل القش هو لبنان الدّول والممالك والإمبراطوريات. إنّه دولة "الزبون" المبتكرة والممسوكة من "القطب".

كتاب "المرآة المتكسّرة" ليس كتاباً تأريخيّاً للبنان بل هو قراءة في التاريخ اللبناني بغية فحصه والوقوف عند مناهج المؤرخين والقناعات الملازمة لسرديات استشراقية في محاولة لتفكيك الأيديولوجيا اللبنانية والمعتقدات الطوباوية لهذا الكيان.