كيف واجهت رائعة "الأمل" لاَندريه مالرو ديكتاتورية فرانكو؟
لم يكن اَندلريه مالرو من أهم الأدباء الفرنسيين وحسب، بل كان كان من أهم الروائيين في القرن العشرين.
ما أشبه اليوم بالأمس،. وما أشبه الحروب، بعضها ببعض. كأن كل الحروب ما هي سوى حرب واحدة تنتقل من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان. هذا ما يمكن للمرء أن يقوله وهو يستعيد رواية " الأمل" لاَندريه مالرو، التي كتبها انطلاقاً من موقفه المساند للثورات الشعبية ولقضايا التحرر في العالم، وبوحي من مشاركته الشخصية في الحرب الأهلية الإسبانية، وكتفاعل مع المقاومة كفكر ونمط حياة، فشكلت هذه الحرب جزءاً من حياته عندما شارك فيها شخصياً ضمن القوة الفرنسية المساندة للجمهوريين الإسبان.
صدرت الرواية للمرة الأولى عام 1937، وترجمت إلى عدة لغات، ومنها اللغة العربية عن دار التنوير في بيروت وغيرها من الدور المهتمة بنشر الأعمال الأدبية العالمية. يروي صاحب "الشرط الإنساني" و" وصوت الصمت" و"مذكرات مضادة" قصة الأشهر التسعة في مدريد تحت الحصار الطويل، سارداً الاستراتيجيات العسكرية التي اتبعها الطرفان وتأثيراتها المباشرة والعميقة في الحياة اليومية لسكان المدينة، من نقص حاد في المواد الغذائية وإجراءات التقشف والدمار الهائل الذي لحق بالمدينة، مبينا كيفية تأثير الحرب في الروح المعنوية لسكان مدريد، الذين يَعُدّون هذا الصمود بمنزلة رمز للمقاومة ضد القمع الذي فرضته القوات الفاشية.
تستعيد مقولة "التاريخ يعيد نفسه" وأنت تقرأ كل صفحة من صفحات هذه الرواية، فالحرب هي هي، وتداعياتها هي هي، في أي أرض اندلعت وفي أي بلاد حلت، بكل عذاباتها وفجائعيتها ودمويتها وآثارها المدمرة في الفرد والمجتمع، في أن معا.
القوات المتمردة تجتاح المدن، والمدن الإسبانية تتهاوى الواحدة بعد الأخرى، تحت أقدام رجال فرانكو الفاشيين بعصبيتهم وتوترهم وتعطشهم إلى إراقة الدماء تحت شعارات فاشية، تنضح بالتعصب والقومجية وطهرانية عرقية مزعومة؟
سقطت برشلونة، طليطلة وبلنسية... وباتت هذه القوات الهمجية تهدد مدريد وتتقدم نحوها بضجة مكتومة. وأمام الموت الزاحف نحو المدينة تنتفي كل الفضائل والأشياء الجميلة في الحياة.
" لا صوت الليلة للروائيين، فإن الأشخاص الذين يتعاملون مع الحياة لا قيمة لهم أمام الموت، والحكمة أكثر تعرضا للإصابة من الجمال، ذلك لأن الحكمة فن مشوب، أما الشعر والموسيقى فيثبتان للموت والحياة على حد سواء ". لكن هذا الموت، في نظر مالرو، هو قدر الإنسان، وهو ما يعطي الحياة عمقها، وفي إمكان المرء أن يتواصل حتى مع الموت، وإن كان هذا الأمر أصعب الأشياء، فإنه يعطي الحياة جوهرها الحقيقي، لكن هذا التواصل مع الموت سيصاحبه كثير من الألم والمعاناة.
هذه هي الرؤية التي تحملها رواية " الأمل "، يشكل الألم جسر الواصل بين ضفتي الحياة والموت، ليضيف إلى هذه الثناثية عنصراً ضرورياً، هو الألم، فتغدو ثلاثية بثلاثة أضلاع :الألم والموت والحياة.
كغيرها من الحروب الأهلية، اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية بين أبناء البلد الواحد والشعب الواحد، وإنما بأفكار متباينة. إنها حرب الأفكار المتنافرة بين الجمهوريين، أصحاب الأفكار اليسارية والاشتراكية، وبين جماعة فرانكو، المدعومين من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.
حرب الشوارع هي الصفة الطاغية على هذه الحرب: تعرض المباني والطرقات للقصف بشكل مستمر، صفارات الإنذار، مسلحون ينتشرون في الشوارع، يقيمون المتاريس، وينصبون المدافع التي تصب حممها فوق رؤوس الناس، والطيارون بطائراتهم البدائية التي تنتظر ضوء السيارات ليلاً لتحدد أهدافها، والمحاكمات الميدانية والإعدام في الشوارع وبقع الدم في الطرقات. إنه الألم الذي يصاحب الحروب ويَسِمُها بميسمه الحزين.
" كانت القنابل الثقيلة تتساقط في المنطقة بين المركز الرئيسي التلفونات (السنترال) والقلعة وسقطت إحدى هذه القنابل من دون أن تنفجر، فحملها رجلان من رجال الميليشيا، أحدهما من الأمام والآخر من الخلف، وبدت سماء نهاية الأصيل الكابية تجثم على مدريد المملوءة بالشر وألسنة اللهب، حيث اختلطت رائحة الانفجارات والتراب برائحة أخرى أشد إثارة، تلك الرائحة التي عرفها لوبيز في طليطلة، والتي يعتقد أنها رائحة اللحم المحترق".
تجتاح الحرب الناس في أفكارهم وسلوكهم فيغيرون مواقفهم، ناقلين البندقية من كتف إلى كتف، راذلين المنهزم، مصفقين للمنتصر، مرحبين بقدومه، حتى رجال الكنيسة نجدهم يغادرون أديرتهم ويتبعون صيحات التعصب الفاشية. الرواية أشبه بتوثيق ليوميات الحرب، ومشاهدات حية من أرض الواقع، الذي عاشه مالرو محارباً ومسانداً.
يتداخل في هذه الرواية الأدبي بالتاريخي بالسياسي، ويظهر البطل الروائي في الرواية كحركة جماعية باحثة عن الحرية في مواجهة ديكتاتورية فرانكو، فلا وجود في رواية " الأمل " للبطل الفردي، ولا خيط واضح لسير الأحداث، وإنما سرديات تتبع وقائع المعارك وتلاحق ظلالها وتأثيراتها في الإنسان والتشوهات التي تصيبه من جرائها.
تتخذ الرواية أبعاداً ملحمية تُشعر القارئ بالحرب وتزجّ به في أتونها، فيعيش لحظاتها المصيرية، ويتألم بسبب نتائجها التي أدت في النهاية إلى فوز الفاشيين، وعلى رأسهم فرانكو، وسيطرتهم على الحكم.
تنتهي الحرب بانتصار فرانكو والفاشيين وينكفئ الكاتب إلى الداخل الإنساني فيه، متسائلاً عن جدوى الحروب ومآلاتها وتداعياها، الأمر الذي أثار موجة من الاعتراضات عليه من جانب المثقفين اليساريين على الرغم من تعيينه وزيراً ديغولياً في حكومة جورج بومبيدو الأولى، وعلى الرغم من مساهماته المهمة في الحياة الأدبية والحياة السياسية في فرنسا، ودوره الكبير في دعم الثقافة والفن وتطوير الأنشطة الثقافية والاهتمام بالمؤسسات الثقافية والتراث الثقافي في البلاد.