كيف وحّد سرجيوس مصر تحت راية "الهلال مع الصليب"؟
رجل دين مسيحي برز كرمز وحدوي خلال ثورة 1919 وأطلق شعار "يحيا الهلال مع الصليب". من هو القمّص سرجيوس؟
في صباحٍ يهدر بهتاف الغاضبين، وقف رجل دين قبطي يخطب في ميدان الأوبرا، وصوته يشق الهواء المشبع برائحة البارود والأمل، حين اندفع نحوه جندي إنكليزي شاهراً سلاحه.
صرخت الجموع: "حاسب يا أبونا، حيموّتك!"، لكن القمّص سرجيوس لم يهتز، وواصل بثبات: "متى كنا نخاف الموت؟ دعوه يُريق دمائي لتروي أرض وطني"، فتراجع الجندي أمام ثباته.
لم تكن تلك أولى مواجهات سرجيوس مع الاحتلال ولا الأخيرة. فقد كان ظاهرة استثنائية. رجل دين متمرّد، وثائر يخطب من المساجد والكنائس، ومفكّر وطني صاغ شعاراً أصبح أيقونة: "يحيا الهلال مع الصليب"، الذي ظلّ يتردّد كلما واجهت مصر لحظة انقسام.
في ربيع عام 1919، اشتعلت الثورة ضد الاحتلال البريطاني الذي حاول إثارة الفتنة بين المسلمين والأقباط. لكنّ المصريين خرجوا معاً في تظاهرات حاشدة، وهم يتبادلون المنابر والخطب بين الأزهر والكنائس. في هذا المشهد، اعتلى سرجيوس منبر الأزهر، وخطب في الناس بلغة تجمع ولا تفرّق.
الشعار الذي حمله الثوّار فوق الأعلام، حيث تعانق الهلال والصليب، لم يكن مجرّد رمزية بل تعبيراً عن وحدة وطنية أصيلة، صيغت ضد استعمار أراد بثّ الفرقة.
وفي قلب هذا السياق، برز القمّص سرجيوس رمزاً لهذه الوحدة، وخطيباً لثورة جعلت منه صوتها المتمرّد وضميرها الوطني الحيّ.
ثائر منذ الصبا: من الاعتصام الطلابي إلى منبر الخرطوم
-
في ربيع عام 1919 اشتعلت الثورة ضد الاحتلال البريطاني الذي حاول إثارة الفتنة بين المسلمين والأقباط
وُلد ملطي سرجيوس في 16 آذار/مارس عام 1883 بمدينة جرجا بصعيد مصر، والتحق في بالمدرسة الإكليريكية بالقاهرة، حيث ظهرت بوادر تمرّده حين قاد عام 1902 أول اعتصام طلابي أمام الدار البطريركية احتجاجاً على نقص التغذية.
ورغم هذا التمرّد، رسّمه البابا كيرلس الخامس كاهناً على بلدة ملوي وهو في الــ 21 من عمره، ربما لاحتوائه بمنصب كنسي، أو لإعجابه بقدراته الخطابية. لكن الشاب لم يخضع، فبعد 3 أشهر فقط من الرسامة، وأمام محاكمة كنسية، أعلن بنفسه استقالته قائلاً: "لا تتعبوا أنفسكم، لقد عزلت نفسي بنفسي"، موقف عبّر عن استقلاليته ورفضه الخضوع لمؤسسة تخالف قناعاته.
لاحقاً، عمل سرجيوس وكيلاً لمطرانية أسيوط، ثم خدم في الفيوم والزقازيق، قبل أن يغادر إلى السودان عام 1912 ليشغل منصب وكيل مطرانية الخرطوم.
هناك، لم يكتفِ بخدمته الدينية، بل أطلق مجلة "المنارة المرقسية" وبدأ نضاله الفعلي ضد الاستعمار البريطاني، جامعاً المسلمين والمسيحيين في خطاب وحدوي، كاشفاً دور الإنكليز في تأجيج الطائفية. خطابه الوحدوي أثار غضب الاستعمار، فصدر قرار بترحيله خلال 24 ساعة. غادر الخرطوم في 16 أيار/مايو 1915، تاركاً خلفه رسالة إلى المدير الإنكليزي: "سواء كنت في السودان أو مصر، لن أكفّ عن النضال حتى تتحرّر بلادي".
كانت هذه المحطة فارقة في صقل وعيه الوطني، مدركاً أنّ معركة التحرّر لا تعترف بحدود الدين أو الجغرافيا.
منبر الأزهر وراية الثورة: الكاهن الذي تحدّى الطائفية بالسجال
-
وصف سرجيوس بـ"الكاهن المُسيّس" بسبب انخراطه غير المسبوق في العمل السياسي
عندما اندلعت ثورة 1919، كان سرجيوس مستعدّاً بخبرته ليكون في قلب المشهد، فبرز كرمز للوحدة الوطنية، وافتتح خطبه الحماسية بعبارته الشهيرة: "يحيا الهلال مع الصليب".
لكنّ الحدث الأبرز في مسيرته كان اعتلاءه منبر الأزهر ليخطب في الثوّار، مستمراً هناك 3 أشهر ليلاً ونهاراً، معلناً: "مصري أول ومصري ثاني ومصري ثالث، ولا فرق بين مسلم وقبطي"، وكان يبدأ خطبه باسم الله الرحمن الرحيم، ويعقبها باسم الأب والابن والروح القدس. جمع في شخصيته بين الواعظ الديني والمناضل السياسي، مستشهداً بالقرآن وتعاليم المسيحية ليُنتج خطاباً وحدوياً جديداً.
تصريحاته كانت صادمة في تضحيتها بالهوية الطائفية لأجل مصر، إذ قال: "إن كان بقاء الإنكليز في مصر لحماية الأقباط فليمت كلّ الأقباط ليعيش كلّ المسلمين أحراراً"، وصرّح أيضاً: "إذا كان الاستقلال موقوفاً على الاتحاد، وكان الأقباط حائلاً دون ذلك، فإني مستعدّ لأن أضع يدي في يد إخواني المسلمين للقضاء على الأقباط لتكون مصر أمة متحدة".
ويروي حفيده وجدي الجاويش، المقيم في منزل جده بشبرا، كيف كان سرجيوس يخاطر بحياته، ويقف في وجه الجندي الإنكليزي من دون تراجع، مستعداً للشهادة، وهو ما منحه مصداقية لا تُنتزع.
وصف سرجيوس بـ"الكاهن المُسيّس" بسبب انخراطه غير المسبوق في العمل السياسي، ما أثار خلافات مع الكنيسة، فتكرّرت محاكماته الكنسية، وصراعاته مع البطاركة، حتى بات حالة كهنوتية استثنائية. عند اعتقاله، اعترضت الكنيسة لا باعتباره ثائراً، بل لأنّ اعتقاله اعتُبر تدخّلاً في سلطتها على رجال الدين، ولم تدافع عنه كمواطن.
وفي تموز/يوليو عام 1920، جرّدته الكنيسة من رتبته وأعادته للصفة المدنية، بذريعة مخالفته للتقاليد وانتقاده للرهبان، في ما بدا محاولة للتبرؤ من نضاله، وتقديم أوراق طاعة للاحتلال.
تكشف هذه العلاقة المتوترة مع الكنيسة عن معضلة جوهرية في حياة سرجيوس: الموازنة بين الإيمان والمشروع الوطني، حيث اختار النضال معتبراً أن خدمة الوطن المصري لا تنفصل عن خدمة الله.
الهلال يحتضن الصليب: كيف صاغ سرجيوس رمزاً عابراً للأديان
-
كان شعار "الهلال مع الصليب" الذي ارتبط بسرجيوس استجابة سياسية مباشرة لمحاولات بريطانيا تفتيت النسيج الوطني عبر سياسة "فرّق تسد"
كان شعار "الهلال مع الصليب" الذي ارتبط بسرجيوس استجابة سياسية مباشرة لمحاولات الاستعمار البريطاني تفتيت النسيج الوطني عبر سياسة "فرّق تسد"، التي اتخذت في مصر شكلاً من أشكال التحريض الطائفي بين المسلمين والأقباط.
وقد أشار محمد صبري السوربوني، وهو شاهد على ثورة 1919، إلى أن أول ظهور لعناق الهلال والصليب كان خلال جنازات شهداء الثورة من المسلمين والمسيحيين واليهود في 8 و9 نيسان/أبريل، لكن سرجيوس هو من حوّل هذا المشهد إلى شعار دائم حين جعله مفتتح خطاباته وجزءاً من هتافات الثورة.
هكذا تحوّل الشعار بسرعة إلى رمز مرئي. إذ رفعه الشباب على أعلام رسم عليها هلال يحتضن صليباً، ما اعتُبر مشهداً غير مسبوق في المنطقة، حتى أن أحد الإيطاليين علّق في عام 1919 قائلاً: "للمرة الأولى في التاريخ يظهر الصليب مع الهلال على الأعلام المرفوعة".
وأشاد سعد زغلول بهذا التلاحم في خطبة له بفندق شبرد يوم 16 نيسان/أبريل 1921 قائلاً: "من يوم أن ظهر فجر النهضة رأينا في أفق مصر الصليب يعانق الهلال".
ومن اللافت أنّ هذا الشعار ترسّخ، رغم أن الهلال لم يكن بعد رمزاً دينياً في الإسلام. إذ لم يُذكر في السيرة النبوية كشعار ديني، بل ارتبط لاحقاً بالدولة العثمانية، ثم كرّست الأدبيات الأوروبية في القرنين الـ18 والـ19 هذا الربط قبل أن يتقبّله المسلمون أنفسهم.
في المقابل، كان الصليب رمزاً مركزياً في المسيحية منذ قرون، لارتباطه بعقيدة الفداء. هذا التفاوت في عمق الرمزية يجعل اقتران الهلال بالصليب ظاهرة ثقافية مركّبة، تُجسّد تفاعل رموز دينية متباينة الجذور في سياق وحدة وطنية سياسية.
يروي وجدي الجاويش، حفيد القمّص سرجيوس، أنه تعلّم من خاله أموزيس سرجيوس –الابن الأكبر للقمّص– كيف أنّ قصة كفاح الجدّ تجعل المرء "يعشق تراب هذا الوطن". هذا النقل الشفهي يُجسّد تحوّل سرجيوس من أسطورة عائلية إلى رمز وطني.
أما شعار "الهلال مع الصليب" فقد تجاوز لحظته التاريخية، وأصبح جزءاً حيّاً من الذاكرة الجمعية. ففي أعقاب تفجيرات الإسكندرية عام 2017، رسم طلاب مدرسة "أرض الناصرية" الهلال والصليب في فناء مدرستهم، معبّرين عن تكاتف المصريين تحت علم وشعار واحد.
يتكرّر استدعاء هذا الشعار في لحظات الأزمات كآلية دفاعية ضد الفتنة، وتذكير رمزي بلحظة مثالية من الوحدة الوطنية. وعندما توفي سرجيوس في 5 أيلول/سبتمبر 1964 عن 81 عاماً، خرجت جنازته في موكب شعبي امتد 3 كيلومترات، وأصرّ الناس على حمل نعشه على الأعناق، رافضين نقله بسيارة – في اعتراف صامت بمكانته.
القمّص صموئيل تاوضروس السرياني وصفه بأنه "قائد روحي تقدّمي نابغ، لم ترَ الكنيسة مثله منذ أجيال"، وقرنه بأعلام الفكر المسيحي مثل أوريجانوس، واضعاً إياه في مقام "ضريح الجندي المجهول".
عاش سرجيوس يتنقّل بين هويتين: رجل دين ومناضل سياسي، لكنه لم يرَ بينهما تناقضاً، بل صاغ لاهوتاً وطنياً حين قال: "عبادة الوطن وعبادة الله هي سواء".
ويكشف مسار سرجيوس وتاريخ شعار "الهلال مع الصليب" عن كيفية صناعة الرموز الوطنية وتحوّلها من تعبير ثوري عفوي، إلى سلاح رمزي ضد الاستعمار، إلى ذاكرة جمعية حيّة تُستدعى عند كل تهديد. ورغم صراعه مع المؤسسات، ظل رمزاً للتوافق، لأنّ قوته لم تكن في امتثاله للمؤسسة الكنسية بل في وفائه للمبدأ.
كان سرجيوس يدرك أنّ الوحدة الوطنية في مصر لا تُصنع في المجالس الدينية، بل في الميادين، وأنّ الإخلاص للوطن قد يتجلّى خارج الأطر التقليدية. أما درسه الأهمّ فهو أنّ الوحدة ليست مجرّد تعايش سلبي، بل فعل نضالي مشترك ضد من يهدّدون الاستقلال والكرامة. وفي عصر تُستغلّ فيه الرموز الدينية في حروب الهوية، تذكّرنا قصة "الهلال مع الصليب" بأنّ الرموز يمكن أن توحّد لا أن تقسّم.
رحل القمّص سرجيوس، لكنّ صوته لا يزال يتردّد: "أنا مصري أولاً ومصري ثانياً ومصري ثالثاً".