ما بعد الحرب

الحمد لله أن شلالات الدم توقفت، لكنّ قلوبنا ما زالت تموت حين نرى بيوتنا المدمّرة، ومدننا المنكوبة، وحين نفقد عزوتنا، وحين نعلم بأن الحرب ملتصقة على وجوهنا وتشاركنا خيامنا وطعامنا.

.. ثم، بعد كل ما عايشناه من قتل، ونزوح، وجوع، وبرد، ودمار، وضياع كل شيء.. نتفاجأ، لا لأن النهاية لا ترضينا، ولا لأنها ليست كما توقعنا وتمنينا، بل لأن الحرب لا تفرق كثيراً عمّا بعدها!

ذلك أن معالم الحرب ما زالت تغزو مدننا، مرسومة على وجوهنا، تنهش عقولنا التي لم تعد تفقه إلا بالطعام، وبرصد الأسعار، والتجهيز لشتاءٍ قاسٍ آخر.

لكن عقلي الصغير أتعبه تأمل هذه النهاية، فهو الذي يعرف بأن عامَيِ الحرب هذين مفصليان في قضيتنا لبشاعتهما، لقسوتهما، ولأنهما أيضاً عامان من المقاومة.

هو الذي ظنّ بأن نهاية هذه الحرب إمّا تحرير كل شبرٍ في بلادنا، أو نفيها من الخرائط والتاريخ. هو المتيقّن بأنه لا تليق بخسائرنا وتضحياتنا سوى نهايةٍ تكون بدايةً جديدةً لبلادنا من دون احتلال.

لا أدري كيف لهذا العقل أن يصدق بأن هذه هي النهاية! فعقلي يسأل: هل نهاية الحرب تعني بداية نزع حقنا في المقاومة والدفاع عن أرضنا تحت ما يسمى "نزع السلاح"؟ وأن نهاية الحرب يصحبها توسّعٌ للاحتلال، ولو كان الأمر مقتصراً على مساحات معينة!

أتأمل النهاية منذ أكثر 48 ساعة، محاولةٍ التصديق بأن الحرب انتهت – فصلٌ فقط من حربنا الأزلية  – والاقتناع بأنه ربما تكون نهاية الحروب تصير هكذا، وأنها اليوم ستقتصر على ترك آلة القتل الصهيونية سماءنا. أمّا نحن فنبقى تحت سمائنا وفوق أرضنا بمشاعرنا المتبلدة، شاردين في وجوه بعضنا البعض، متسائلين: هل تكون النهاية كأيام الحرب فقط؟ لا آلة قتلٍ ستنقضّ علينا؟ لا دبابة ستباغتنا؟

الحمد لله أن شلالات الدم توقفت، لكن  قلوبنا ما زالت تموت حين نرى بيوتنا المدمّرة، ومدننا المنكوبة، وحين نفقد عزوتنا، وحين نعلم بأن الحرب ملتصقة على وجوهنا وتشاركنا خيامنا وطعامنا.

أتساءل: متى سنشعر بأن الحرب انتهت؟ حين نعود إلى بيوتنا لنبنيها من جديد؟
حين نعود إلى مدارسنا؟ حين لا ينتظر أحد "تكية" أو "عربية ماء"؟ حين نتأمل ازدهار مدينتي الحبيبة رفح، وكل مدن القطاع، بدلاً من تأمل أوجاعنا؟ الجواب معروف، لكن ترى، كم سيستغرق كل هذا؟

ذلك أن عمرنا يفنى في الحروب، ولا يكفي لنتعافى منها. ربما نحتاج إلى عمرٍ آخر. عمرُنا قضيناه نراقب كيف تتهاوى المدن في أسبوع، وكيف تقوم من جديد بعد عقود! عمرُنا الذي عرفنا فيه بأن الخراب والموت أسرع شيئَين في الدنيا. عمرُنا الذي عرفنا فيه بأن الناس يأخذها الموت في الحروب أفواجاً، وحين تنتهي لا يعود أي شيء: لا الموتى، ولا نحن، ولا بيوتنا، ولا مستقبلنا وأحلامنا وطموحاتنا وأفكارنا.

الحرب تطغى على كل شيء، حتى الهواء الذي نتنشقه ونزفره مغلفٌ بالحرب.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك