هاروكي موراكامي يروي تجربته الروائية

كتاب "مهنتي هي الرواية" هو إضافة ثمينة للمهتمين بالفن الروائي، ويضيء طريق كلّ من يتوق إلى فهم الأسرار الكامنة وراء كتب موراكامي التي تحقّق أهم وظيفة من وظائف الأدب: وهي تحويل الحياة إلى كلمات، والكلمات إلى حياة.

  • رحلة هاروكي موراكامي والفن الروائي
    رحلة هاروكي موراكامي والفن الروائي

يُولد الفنّ من حيث لا نتوقّع، وبينما تبدأ المسارات الإبداعيّة الكبرى للكتّاب والفنّانين بلحظاتٍ مفاجئة، نجد أنّ بعض التجارب قد تخرج من رحم الحياة اليومية العادية. ولم يكن الروائي الياباني المعروف هاروكي موراكامي (1949)، يُخطّطُ لكي يصبح روائياً، بل كان يدير مقهى للجاز في طوكيو، وكان غارقاً في الديون والهموم اليومية، ذلك ما يدفعنا للنظر إلى الرواية بوصفها فنّاً ينمو من تلك الزوايا المعتمة والهامشية في حياة كُتّابها. من هنا يحضرُ كتابه "مهنتي هي الرواية" (دار الآداب، 2024) بترجمة أحمد حسن المعيني، كما لو أنه نافذةٌ تتجلّى من خلالها رؤيةُ أحد أهمّ الكتّاب المعاصرين لفنّ الرواية. لا يُقدّم هذا العمل الذي يندرج ضمن أدب السيرة الذاتية الإبداعية، مجرّد نصائح تقنيّة للكتّاب الطموحين، بل يرسم بطريقة أدبيّة عميقة الملامحَ الأساسيّة لرحلة موراكامي مع الكتابة التي امتدّت لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً. إذ يضعنا الكتابُ أمام أسئلة جوهرية حول طبيعة الإبداع والعلاقة العضوية بين الحياة والكتابة، وكيفية تحوّل الهواية إلى مهنة تستحقّ عمراً بحاله.

     يروي موراكامي عن تلك اللحظة التي قرّر فيها أن يكتب الرواية، وهو جالسٌ على أحد مدرّجات "جنغو" في طوكيو، وذلك في أثناء مشاهدته مباراة في كرة البيسبول. ولم تكن تلك اللحظة سوى بداية الوحي لتتحوّل من بعدها الرواية إلى عملٍ دؤوب. إذ يمضي بعدها ستة أشهر على طاولة في المطبخ في الساعات التي تسبق الفجر، ليخرج بروايته الأولى "اسمع الريح تغنّي" بعد أن كتبها باللغة الإنكليزية، ثم ترجمها إلى اليابانية. وهذا الأسلوب الذي اتّبعه موراكامي بعد أن وصفه البعض بأنه ترجمة بحتة، عُدّ ارتكاباً للخيانة بحقّ اللغة اليابانية. إلا أنه يستمر في سيرته باستعراض رؤيته الخاصة لفنّ الكتابة؛ إذ يجمع بين شرطَي العفوية والانضباط في آن واحد. ذلك أن يؤمن أنّ الروايات لا بدّ أن تخرج عبر تدفّق عفوي، إلّا أنّ هذه العفوية لا تعني الفوضى، أو الانتظار المفضي إلى الإلهام. بل على العكس، فإنّ موراكامي، يتبع نظاماً صارماً في الكتابة، ويقتضي منه الجلوس أمام شاشة الحاسوب لساعات طويلة، والالتزام بجدول زمنيّ محكم. هذا المزج بين العفوية والانضباط يذكّرنا بمقولة نجيب محفوظ: "الإبداع حرفة قبل أن يكون موهبة". لذا فإنّ موراكامي لا ينتظر الإلهام ليأتي، بل يجلس إلى مكتبه بانتظام، ويستعدّ لاستقبال الأفكار وتوالدها أمامه. هكذا تبدو الكتابة لديه بوصفها عملاً جسدياً يربط بين الكتابة الجيدة، ونضوج الأفكار، وبين الجسد الرياضي. هي الرؤية التي تتجسّد في حياته الشخصية، والتزامه في نظام رياضي صارم، ذلك أنه عدّ التمارين البدنية بمثابة محفّزات فكرية للكاتب المنخرط في العمل الإبداعي.

     في فصلٍ آخر، يُخصّص موراكامي جزءاً كبيراً من كتابه للحديث عن علاقته بشخصياته الروائية وكيفية بنائها وتطوّرها. والمثير للدهشة أنّ معظم الشخصيات التي تقوده وتحثّه للكتابة هي شخصياتٌ نسائية. هذا الاعتراف يكتسب أهمية خاصة في ضوء الانتقادات الكثيرة التي وُجّهت إليه حول عدم قدرته على صناعة شخصية نسائية "جيدة"، ولا سيما في أكثر مشاهد رواياته حميميّة. إلا أنه لا يحاول الدفاع عن نفسه، بقدر ما يحاول شرح طريقته في التعامل مع الشخصيات، إذ يسعى إلى بثّ الروح في مختلف الشخصيات، ويبقى متحمّساً في أعماله ليتابع نمو كلّ شخصية على حدة. لذا ليس من المستغرب أن نطلع في الكتاب على معاييره التي تطوّرت عبر الزمن؛ ففي البداية يعترف أنه اعتمد أسلوباً بسيطاً وغير متكلّف، ثم أخذ يُطوّر أسلوبه في الأعمال اللاحقة بشكل تدريجي، حتى بات يربط بين الأصالة والحرية في الكتابة، ذلك أنه لم يكن قد خطّط لأن يصبح كاتباً، ولم يفكّر كذلك الأمر، في نوع الرواية التي سيكتبها، لذا كان متحرّراً من كلّ قيد، في حين ظهرت الأصالة بوصفها شكلاً نتج عن الدافع الطبيعي لإيصال ذلك الشعور بالحرية والمتعة غير المقيّدة. 

     لم تكن علاقة موراكامي بالجوائز سهلة، ولا سيما بعد ترشّحه مرتين لجائزة "أكوتاغوا" المرموقة في اليابان من غير أن يفوز بها. الأمر الذي دفع بعض النّقاد لوصفه بأنه "بضاعة مستهلكة"، حتى أنّ أحد النقّاد أصدر كتاباً طريفاً بعنوان "أسباب فشل هاروكي موراكامي بجائزة أكواتاغوا" إلا أنه يعترف في كتابه بأنّ عدم فوزه بالجائزة لم يشغله على الإطلاق، بل وصف احتمال فوزه بها بأنه "عائق ـــــ حمل ثقيل" من جرّاء التوقّعات التي وجب عليه أن يحملها معه. كما تبدو رؤيته للجوائز الأدبية رؤية نقدية؛ إذ يعترف بقيمتها، لكنه لا يبالغ في تقديرها. والأهم منها همّ القرّاء الجيّدون "ما يبقى أولاً وأخيراً هو العمل الأدبي لا الجائزة الأدبية"، لأنّ الحياة الحقيقية للكاتب، بحسب وصفه، تأتي من قرّائه، ومن قدرته على التأثير فيهم، ودفع عمله ليحيا ويُخلّد.   

     يبدو موراكامي متحفّظاً حيال إسداء النصائح المباشرة للكتّاب الطموحين، لأنه يجد في كلّ كاتب طريقة خاصة ومنفردة في الكتابة، إلّا أنه يُقدّم في كتابه بعض التوجيهات القيّمة، كالقراءة الموسّعة، والملاحظة العميقة. لذا يوجّه خطابه للكتّاب بقراءة أكبر عدد ممكن من الروايات، والحرص على تغذية نظرتهم للأشياء والأحداث بتفاصيل أكبر، ومعاينة ما يدور حولهم بأكبر قدر من الانتباه والعمق. لكنه يحذّر في الوقت ذاته من إصدار الأحكام السريعة، لأنّ هذا من اختصاص النقّاد والصحافيين إلى حدّ ما. أما الروائي، فعليه أن يتساءل ويتفكّر، لأنّ الأشياء في نهاية المطاف ليست بسيطة كما تبدو في الظاهر. لذا نراه يشدّد على أهمية الحرية والاستمرارية في المشوار الأدبي، ويفسّرُ العجز عن كتابة رواية جيدة في بداية الطريق بكونه أمراً طبيعياً. 

   يختتم موراكامي كتابه بتأكيد فكرة أساسية مفادها: أنّ الكتابة الروائية ليست مجرّد مهنة، بل هي خيار حياة متكامل. ويصف نفسه بأنه "شخص عادي" استطاع الاستمرار في كتابة الروايات لعقود، وبفضل عزيمته القوية، وبعض القدر من الحظ، استطاع أن يحافظ على حسّ الدهشة طوال تلك السنوات. من هنا، تظهر التأمّلات العميقة الخاصة به في طبيعة الإبداع والعلاقة المصيرية بين الحياة والكتابة، إذ يسمح للقارئ بأن يفهم بشكل أعمق العوالم الداخلية لموراكامي، والمنابع الحقيقية التي تستقي منها رواياته عوالمها الساحرة. لذا فإنّ كتاب "مهنتي هي الرواية" هو إضافة ثمينة للمهتمين بالفن الروائي، ويضيء طريق كلّ من يتوق إلى فهم الأسرار الكامنة وراء كتب موراكامي التي تحقّق أهم وظيفة من وظائف الأدب: وهي تحويل الحياة إلى كلمات، والكلمات إلى حياة تخلق عالماً موازياً وغير خاضع سوى لشروط الفن والجمال.  

اخترنا لك