"البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو": فلسطين علامة مائية في تجربة سينمائية مغايرة؟

إذا كان العمل الفني المميز يتكوّن من أكثر من طبقة، فإن فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" (إنتاج مصري – أردني)، كتابة محمد الحسيني وإخراج خالد منصور، حمل في إحدى طبقاته همّ القضية الفلسطينية، وهمّ أراضينا العربية المحتلة اليوم، بصورة عامة، ويشير إليها من طرف خفي ورهيف، ويتماسّ معها بصورة جادّة، من دون أي تصريح. 

تدور أحداث الفيلم المصري حول الشاب "حسن"، الذي يقوم بدوره النجم عصام عمر في بطولته الأولى، ويعاني حسن اضطهاد جاره المعلم "كارم"، ومالك الورشة التي تقع أسفل الشقة التي يعيش فيها حسن مع أمه. 

ومن خلال أحداث الفيلم وتيمته، التي تبدو للوهلة الأولى بسيطة، يطرح صُنّاع الفيلم رؤى متعددة، ربما هي أبعد وأعمق من "الحكاية" التي يعرضها الفيلم. 

كارم وحسن.. ثنائية المعتدي وصاحب البيت الحقيقي

تتكرر اعتداءات كارم عبر ضرب حسن، والجديد هنا أن مشاهد الاعتداء كُتبت بحِرَفية ليظهر فيها الإذلال النفسي لحسن، حتى إنه في إمكان كارم إيقاف حسن ومنعه من الوصول إلى بيته، وإجباره على القيام بكل ما يريد كارم، وهو ما يعكس عند الأخير غرض إذلال حسن وإهانته ليجبره على التنازل عن بيته.

يعرض كارم على حسن وأمه المال أكثر من مرة ليتركا الشقة، لكن من دون فائدة. وفي أثناء اعتداء كارم على حسن بالضرب ينقضّ عليه الكلب "رامبو" ويعضّه  في عضوه الذكري، وهو ما يمثل الحدث المفصلي في الفيلم، بحيث يتكئ كارم على هذه الحادثة ليصرّ على إجبار حسن على إحضار الكلب للانتقام منه: "أنا عاوز الكلب راجل لراجل"، وهو ما يرفضه حسن. وبالفعل يتمكن من إنقاذ الكلب رامبو بضمه إلى كلاب سيدة غنية تتعهد رعايته.

هكذا نجد أن كارم يتبع أساليب المعتدي نفسها اليوم، فهو يماطل ويتعهد ثم يخلف ويستعين بالقوى الخارجية، التي تحميه لأسباب غير مفهومة، ويطالب بتسليم المقاومين (ويمثلهم الكلب رامبو) لينتقم منهم في مقابل توقفه عن الاعتداء.

أغنية شجر "اللمون" وأزمة الفقد 

لأن وظيفة الفن الأساسية تقديم معالجة لطيفة وعامة لأي قضية تشغل الإنسان، فإن من يمعن النظر في الفيلم، الذي يُعَدّ التجربة الأولى لمخرجه خالد منصور، سيجد أنه اهتم بطرح آثار العدوان الإسرائيلي على أراضي الشعب الفلسطيني وممتلكاته، من خلال استحضار أغنية شجر اللمون (البرتقال) التي غنّاها المغني النوبي، أحمد منيب، وأعاد غناءها محمد منير باللحن ذاته، لكن بتوزيع مغاير. 

وأغنية "شجر اللمون"، التي تُعَدّ الرابط النوستالجي بين البطل وأبيه الغائب، تشير بداية من عنوانها بشيء من الوضوح إلى شجر الليمون الذي تمتاز به فلسطين، فتتناول الأغنية فكرة فقد الأرض بصورة عامة، وفقد الأراضي الفلسطينية بصورة خاصة، أو افتقادها ناسها الحقيقيين وأصحابها الأصليين قبل أن يحدث العدوان. 

وربما ربط البعض الأغنية بتفاسير بعيدة، كمن قال إنها كانت موجهة إلى المصريين الذين يعملون في الخليج بعد فترة الانفتاح في أواخر سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، لتمثل الأغنية، وفق هذا التفسير، تغريبة الشاب المصري في تلك الفترة، بينما ربطها البعض الآخر بقضية تهجير النوبيين من أراضيهم قسراً عند بناء السد العالي، وخصوصاً بعد أداء أحمد منيب وتوزيعه لها بآلات نفخ نوبية، وغنائه لها بلكنة نوبية واضحة.

هنا تحديداً تتقاطع الأغنية مع موضوع فيلمنا، فكلاهما يناقش قضية الفقد، فقد الأرض والمأوى تحديداً، مهما تعددت التأويلات. ربما هذه هي الوظيفة الأولى، أي إنتاج حكايات تحمل من الجمال والخفة والرهافة، ما يجعلها تتقاطع مع هموم أناس آخرين ربما لم يأت الفيلم على ذكرهم إلا تلميحاً، من خلال استدعاء كوبليه في أغنية. 

"وكل شيء بينسرق مني.. 

العمر م الأيام.. والضي م النني

وكل شيء جوايا 

فينك؟! بيني وبينك أحزان ويعدوا 

بيني وبينك أيام وينجضوا (ينقضّوا)

شجر اللمون دبلان على أرضه"

"مقهى" المجتمع الدولي

كحال المجتمع الدولي تماماً حين يدّعي ممارسة العدالة في فضّ ما يسميه "نزاعاً" بشأن أراضينا العربية المحتلة، فإنه دائماً ما يلقي اللوم على أصحاب البيت الحقيقيين. هذا ما عكسه الفيلم في جلسة فضّ النزاع التي أقيمت بين كارم وحسن وأمه، لنرى أن لغة جسد كارم المعتدي تعكس تعجرفاً لا حد له، بينما حسن وأمه جالسان مستكينان مستسلمان، ولا يزالان ينتظران كلمة حق من لسان هذا العالم. 

قد يظن من يشاهد فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" أنه مجرد فيلم يسلط بقعة ضوء على قصة إنسانية مؤثرة لكلب، يقرر الانتقام لصاحبه من مالك البيت الذي يريد طرد صديقه وأمه لتوسيع حدود الورشة (متجره). 

لكن رؤية الفيلم أبعد من ذلك بالتأكيد، لأنه في الحقيقة لدينا 5 أبطال مؤثرين. حسن وأمه وكارم والكلب، والبطل الخامس هو والد حسن الذي يستحضره ابنه من خلال نُسَخ شرائط الكاسيت، التي كان والده يسجلها رفقته. وفي أحد هذه الشرائط نسمع أبو حسن يطلب إلى ابنه أن يشاركه أغنية "شجر اللمون" التي تُعَدّ هي أيضاً واحدة من أبطال الفيلم. 

الأب الذي (طفش) من البيت في ظروف مجهولة، والذي يرتبط حضوره دائماً باستماع حسن لهذا الشريط تحديداً بعد أن عدله ليكون صالحاً للاستماع على هاتفه المحمول. 

أنسنة القضية

يمثل حسن ثورة الشباب بين الحين والآخر، والتي تشعل فتيل القضية من جديد، حتى إن حسن يستطيع في النهاية ضرب كارم وإحراق سيارته، قبل أن تتدخل الأطراف الخارجية لتهدئة الأوضاع وإبقاء الحال على ما هي عليه، عبر خروج حسن وأمه من البيت إلى غير رجعة. 

كما يمثل الأب الغائب نموذج المخلص الذي خرج من المشهد ولم يعد، بينما تقدم الأم صورة مستعارة لحال الأراضي التي يفقدها الفلسطينيون شيئاً فشيئاً. 

كان في إمكان صناع الفيلم أن يقدموا عملاً مليئاً بالشعارات، لكنهم اختاروا الانحياز إلى معاني إنسانية، وإلى أداءات فنية أرهف وأكثر رمزية، من خلال قصة تحمل في ظاهرها القلق على حياة كلب انتقم لصاحبه، لكنها تحمل في باطنها إشارات إلى إنسان اليوم، أُولاها احترام حياة الحيوانات وكرامتها، ولن يكون آخرها التنبيه لقصص من تم الاعتداء على أراضيهم وتاريخهم في كل مكان من هذا العالم.

لم يخرج أسلوب تلوين مشاهد الفيلم عن الرؤية المظلمة التي أراد صناعه أن يصدّروها عن عالم اليوم، لنجد معظم المشاهد إما قاتمة وإما سوداء تماماً.