"المدرهة".. أرجوحة الشوق ومحراب الذاكرة اليمنية
ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببدء موسم الذهاب إلى الحج، وتعكس جزءاً أصيلاً من التراث الثقافي اليمني. ماذا تعرفون عن "المدرهة"؟
-
"المدرهة".. أرجوحة الشوق ومحراب الذاكرة اليمنية
مع مطلع شهر ذي الحجة من كلّ عام، تعود "المدرهة" لتفرض حضورها في ساحات المنازل وأزقة الحواري بمدينة صنعاء القديمة ومناطق يمنية أخرى، مجسّدةً تقليداً شعبياً عميق الجذور.
هذه الأرجوحة، التي تُعرف أيضاً بأسماء مثل "الدُرهانة"، "الدرِّيهة"، أو "المرجيحة"، تُصنع يدوياً من أخشاب قوية كـ"الطلح" أو "الأثل"، وتُربط أعمدتها بسلاسل حديدية أو حبال متينة تُعرف بـ"حبال السَّلب".
ترتبط المدرهة ارتباطاً وثيقاً ببدء موسم الذهاب إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، وهي تعكس جزءاً أصيلاً من التراث الثقافي الذي وثّقه المؤرّخون، كـبهاء الجندي في كتابه "السلوك"، الذي أشار إلى ممارستها منذ زمن بعيد.
صناعة المدرهة
-
يُعتبر تنصيب المدرهة أهم معلم مرتبط بالحجيج
تُعدّ المدرهة شكلاً من أشكال الأراجيح الكبيرة، ويتحرّى الأهل بدقة عن متانة أعمدتها وحبالها خشية انقطاعها. ففي المعتقدات الشعبية، يحمل انقطاع المدرهة نذير شؤم ينذر بأنّ الحاج في خطر.
ويُعتبر تنصيب المدرهة أهم معلم مرتبط بالحجيج؛ فعندما ينوي الحاج السفر لأداء مناسك الحج، يتكاتف الأهل والجيران والأقارب لنصبها في فناء منزله، أو في أحد ساحات القرية، أو مكان تجمّع الناس كالميدان.
وما يزيد المدرهة رمزية هو تزيينها بملابس حجاج بيت الله الحرام، تعبيراً عن الشوق والوداع، والتغنّي باسم الحاج بالنسبة للرجال وباسم الحاجة بالنسبة للنساء.
والمدرهة هي أكثر من مجرّد أرجوحة. فهي تحمل رمزية عميقة في الثقافة اليمنية من جانب، تُجسّد شوق العائلة والأصدقاء إلى الحاج، ودعاءهم له بالسلامة والسداد في رحلته المقدّسة، ومن جانب آخر، تُعبّر عن فرحة الاستقبال المرتقبة، ولهفة اللقاء المقبل مع الحاج وهو يحمل معه عبق الأماكن المقدّسة.
حكايات تُروى وأنغام تُحفظ
-
تُعدّ الأهازيج والأناشيد من أهم الطقوس المصاحبة للمدرهة
تُعدّ الأهازيج والأناشيد من أهم الطقوس المصاحبة للمدرهة، ويغلب عليها طابع الشجن والحزن، حيث تُغنّى بأبيات عفوية ونغم مؤثّر.
وتتوزّع أوقات المشاركة بين فئات المجتمع بشكل منظّم. ففي الصباح والعصر، تتولّى النساء قيادة المشهد، حيث يتمّ اختيار اثنتين منهن ممن يحفظن الأهازيج، لتردّ إحداهما والأخرى تجيب، وكلاهما فوق المدرهة، بينما يستمع البقية أو يردّدون وراءهن.
يؤكّد رئيس "جمعية المنشدين اليمنيين"، علي محسن الأكوع، لـــ "الميادين الثقافية" أنّ "المدرهة تتميّز بأهازيجها وألحانها العريقة التي لا تزال تُحفظ وتُردّد حتى اليوم"، وقد حرص هواة هذا الفن على توثيق هذه الأبيات والألحان لضمان عدم اندثارها.
ويضيف الأكوع، وهو مؤلّف كتاب "فنّ النشيد الصنعاني" الذي يضمّ العديد من الأهازيج الشعبية، خاصة أهازيج "المدرهة": "تمّ جمع العديد من أبيات الشعر، وهي أبيات تُنشر وتُوثّق لأول مرة بعد أن ظلت حبيسة الألسن والصدور، وهذا الجيل بدوره يسعى إلى توثيقها عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة لضمان بقائها".
ومن بين الأهازيج الشهيرة في صنعاء القديمة: "لو تبسروا (تنظروا) يا حاضرين، حين قال مع السلامة، لا.. والمسبح (المؤذن) قام صاح، وشل بالجلالة (ردّد اسم الله)، صرَّ المكان من وحشته، ودمَّعوا جهاله (بكوا أطفاله)".
المدرهة: نسيج اجتماعي وذكر إلهي
-
المدرهة جزء لا يتجزأ من عظمة الحج نفسه
لم تكن المدرهة مجرّد وسيلة ترفيه، بل ضرورة روحية واجتماعية في الأزمان القديمة، حيث كانت رحلة الحج تستغرق شهوراً طويلة على ظهور الجمال والبغال، من دون وجود وسائل اتصال بين الحاج وأهله، فحينها، كانت المدرهة وسيلتهم الوحيدة لبثّ أشواقهم وأمنياتهم للحاج بالعودة سالماً، وتعبيراً عن قلقهم وفرحهم المرتقب بلقائه.
والمدرهة جزء لا يتجزّأ من عظمة الحج نفسه، وتعكس روحانية وعمق هذه الفريضة التي تتطلّب الصدق والخشوع، وتحثّ الناس على التسامح وتصفية القلوب قبل التوجّه إلى بيت الله الحرام.
كما تعمل على "إحياء فكرة الذكر" لأنها كلّها ذكر، من خلال "الصلوات الخمس، التسبيح، وحتى أبيات المدرهة التي هي خطاب شوق لزيارة بيت الله الحرام، وشوق للسؤال عن الحاج والمخاطر التي يواجهها".
كما أنها تحافظ على النسيج الاجتماعي، وتجعل الناس قريبين من بعض، وتُوجد نوعاً من الألفة والمحبة، وتجعل الناس يلتقون حتى (من كان بينهم) الأعداء في مكان واحد، فالقرب يزيل التوجس وهاجس التباعد بين النفوس.
صوت المرأة: جوهر المدرهة النابض
-
الشعر النسائي في المدرهة يمثّل نافذة على وجدان المرأة اليمنية
في قلب التراث اليمني العريق، تحديداً في عادة "المدرهة" المرتبطة بموسم الحج، تبرز بصمةٌ نسائيةٌ خالصة، تجعل من هذه الأرجوحة التقليدية منبراً للشعر الوجداني والشجن العائلي.
فبينما تتزيّن المدرهة بملابس الحجاج وتبدأ طقوس الوداع والاستقبال، تتولّى المرأة اليمنية قيادة الدفّة الشعرية، لتسكب من خلالها مشاعر الشوق والحنين، وتوثّق بكلماتها لحظات ترقّب العودة.
والشعر النسائي في المدرهة يمثّل نافذة على وجدان المرأة اليمنية، ويكشف عن قوة صبرها، وعمق إيمانها، ومدى ارتباطها بأسرتها وفريضة الحج. فمن بين قصائد المدرهة التي قد تصل إلى 100 أو 200 بيت تكون المتحدّثة غالباً هي المرأة التي تتحدّث فيها عن شوق الأطفال لآبائهم الحجاج، وعن وصاياها لأبنائها، وعن مشاعرها المتأججة تجاه الغائب في رحلته المقدّسة.
وتلك النصوص الشفوية، التي تتناقلها الأجيال، ليست مجرّد كلمات، بل هي "رسم تصويري" للحالة النفسية والاجتماعية التي تعيشها الأسرة في غياب الحاج، وتعبير عن الألم الممزوج بالأمل، والقلق الممزوج بالدعاء، كلّ ذلك بصوت المرأة الذي يضفي على المدرهة عمقاً وجدانياً لا يضاهى.
حرب وتقنية تنهش الذاكرة
-
أصبحت "المدرهة" اليوم محصورة وقليلة جداً في بعض الأماكن
رغم عراقتها وأهميتها، تواجه "المدرهة" اليوم تحدّيات كبيرة تهدّد بقاءها. توضح الناشطة، دعاء محمد الواسعي، رئيسة "مؤسسة عرش بلقيس للتنمية والسياحة والتراث"، لـ"الميادين الثقافية" أنّ "المدرهة، التي كانت جزءاً لا يتجزّأ من مراسم وداع واستقبال الحجاج قديماً وما تحمله من شجن وتراث، أصبحت في طريقها للاندثار".
وتفسّر الواسعي غياب المدرهة إلى عدة أسباب رئيسية، أبرزها العدوان على اليمن في عام 2015، الذي منع الحجاج من السفر، وأدى إلى تراجع حقيقي في ممارسة وإحياء هذه العادة.
وتؤكّد الواسعي أنّ "التكنولوجيا أدّت دوراً كبيراً في استغناء الناس عن الجلوس مع بعضهم البعض". فبعد أن كانت المدرهة "عادة اجتماعية حيّة" يجتمع فيها الناس ويتناوب عليها الرجال والنساء والأطفال، "أصبحت اليوم محصورة وقليلة جداً في بعض الأماكن"، وتحوّلت إلى "مجرّد رمز شفوي تراثي ليس أكثر".
وعلى الرغم من التحدّيات تذكر الواسعي أنّ "مؤسسة عرش بلقيس" عملت على إحياء المدرهة من خلال "مهرجان المدرهة السنوي" لمدة 9 سنوات متتالية "في ظل ظروف صعبة جداً، وفي ظل أوضاع غير مستقرة، وعدوان، وموارد شحيحة"، وأنّ هذه الجهود كان لها "تأثير وفضاء اجتماعي كبير".
تبقى "المدرهة" شاهداً حيّاً على مرحلة مهمة من تاريخ اليمن، وعلى شغف شعب تعلّق قلبه بأرض الحرمين. وفي ظلّ التحدّيات الراهنة، يبقى النداء للحفاظ على هذه الأرجوحة وتفاصيلها الفنية والاجتماعية بمثابة معركة للحفاظ على جزء أصيل من الروح والهوية اليمنية.