"خرفيش" رواية المواجع والمسرات!

للروائي الفلسطيني محمود عيسى موسى روايات سابقة هي: حنتش بنتش، مكاتيب النارنج، الشمبر، بيضة العقرب، وأسطورة ليلو وحتن.

  • "خرفيش" رواية المواجع والمسرات!

ها أنذا، أفرغ من قراءة رواية صغيرة في حجم صفحاتها، مذهلة في طريقة كتابتها، وما احتوته من سرد نادر، وما أرادت قوله وبجرأة غير هيابة أو حذرة.

   عنوان الرواية غريب ولافت للنظر، وهو (خرفيش)، وهو عنوان جريء لا يخلو من مخاطرة، ولا سيما أن أبناء المدن، لا يعرفون ما هو (الخرفيش)، وإلام يرمز، وما هي الدلالات اللغوية والسوسيولوجية التي أراد الكاتب الإشارة إليها أو توكيدها. (الخرفيش) نبات عجيب، فيه خضرة زاهية اللون، زهرته الدائرية ذات لون بنفسجي مضيء، وهي كبيرة تملأ راحة اليد، محاطة بأشواك تسوّرها من جميع الجهات، وهي جميلة جداً، حتى ليكاد جمالها ينطق، وساق نبتة (الخرفيش) ساق تشبه ساق عود القصب، فهي ساق طويلة مورقة، محاطة بأشواك صادة، حامية لها من كل أذى، وهي نبتة اجتماعية، إن جازت التسمية، فهي لا تعيش منفردة أو وحيدة، وإنما تعيش وسط جموع نباتات (الخرفيش) التي تشكل، حين تتكاثر، غابة (خرفيش) تسوّر الينابيع والغدران والحواكير وضفاف الأنهار والبحيرات والخرائب المهجورة والمقابر، فهي نباتات برية، وموسمية تظهر في فصل الربيع، وتنتهي وتتلاشى في فصل الصيف، ساقها تؤكل فهي طيبة، وذات مذاق لذيذ، حين تجرد من لحائها الرقيق القابل للقشر. أبناء الريف يأكلونه ويتلذذون بطعمه، والرعيان، رعيان الماشية، يأكلونه أيضاً، والحيوانات تأكله بشغف، ولاسيما الجمال، والحمير، وهو نبات اجتماعي جذور النبتة الواحدة تعانق جذور النبتة المجاورة لها، وظلاله وسيعة، لهذا تعيش قرب جذوره  وتلوذ بها حيوانات صغيرة كثيرة، أما الطيور فتبني أعشاشها الأرضية بين نباتاته.

   الرواية عنوانها (خرفيش) وكاتبها هو الروائي الفلسطيني محمود عيسى موسى صاحب روايات سابقة عليها هي (حنتش بنتش. مكاتيب النارنج. الشمبر. بيضة العقرب. أسطورة ليلو وحتن) وهي صادرة عن دار "العائدون" للنشر 2025، وتقع في حوالى 115 صفحة، وكل فصل منها حمل عنواناً مستقلاً، وصفحات كل فصل قليلة جداً.

  زمن الرواية مشطور إلى زمنين، زمن النكبة الفلسطينية عام 1948، وما سبقته من أزمنة يتحدث عنها رواة الرواية عبر تقنية (تعدد الأصوات) فتجلو الزمن السابق على عام النكبة، وهو زمن بهيج تعلو صورته سعادة غامرة يعيشها الناس، على الرغم من الانغماس الشديد في أعمال الأرض ، ومواجهة قسوة الفصول، وحالات التعب الشديد، فالمواسم الريفية من زراعة وحصاد، والأعياد والمناسبات الاجتماعية كلها تصير، وفي لحظة واحدة، ممحاة كبيرة تمحو آثار التعب والشكوى والعقبات التي واجهوها، والزمن الآخر، في شطره الثاني، هو زمن الخروج من البلاد الفلسطينية، والعيش الصعب في المنافي، وفي المخيمات، وفي محرقة الأحاديث عن الخروج الفاجع، وحالات الفقد العظيمة، والانتقال من السكن في الخيام وما ولده من مشكلات عصية على الحل والمواجهة في آن، إلى السكن والعيش في (براكيات) التوتياء والاسبست، ثم في البيوت الطينية، وعلى الرغم من هذه المغايرة في شكل البيت، ظلت المشكلات تتوالد وتتكاثر، مثلما ظلت حكايات الندم والشكوى والمعاتبة تتوالد وتتكاثر أيضاً.

   أما مكان الرواية فهو مكان متشظ، ومتعدد، ومتحول، ومجهول، وطارئ، ومكروه، لأنه البديل عن البيت الأصل، وعن القرية الأصل، وعن الوطن الأصل، المكان هو مخيمات أقيمت على عجل، ومن دون دراسة أو إعداد أو توقع لحالات الفصول وما تأتي به من مشكلات، ولا سيما فصل الشتاء المخيف وغضباته المتعددة، فمطره يجرف الخيام، ورياحه الهوج تطير بها إلى مسافات بعيدة، ووحوله تصير أشراكاً لكل من يخاطر ويمشي فيها، مخيمات لا طرق فيها أو لها، ولا دروب واضحة تقود إليها، تكاد الخيام فيها يسند بعضها بعضاً لكثرة الاتكاء، وضيق المكان، خيام لا أشجار لها، ولا نباتات ، خيام بلا جدران، بلا نوافذ، بلا أبواب، بلا سقوف، بلا أساسات، بلا عتبات أو مصاطب، خيام لها أعمدة إن ضعفت أو خارت سقطت الخيام، وخيام لها حبال إن تراخت ووهنت وقعت، وخيام لها أوتاد إن اقتلعت لسبب أو لآخر، هوت، مخيمات تلوذ بأمكنة مهجورة، أو مرذولة، أو محيدة في أطراف المدن وضواحيها، لا ينابيع فيها ولا أبنية قريبة منها، فهي أمكنة وحيدة، لا مؤنس لها في النهار سوى سعي الأقدام الباحثة عن العمل، ولا مؤنس لها في الليل سوى الحكايات التي تروى عن قرية (اجزم) المكان الأساسي الذي تدور حوله الرواية، وهي قرية تابعة لمدينة حيفا، حين يدور الكلام حول بيوتها، وطرقها، وحقولها، وغاباتها، وأسوار حواكيرها، ومراحات حيواناتها، ومستودعات الحبوب والتبن.. لا يبكي أهل الخيام وحدهم، بل تبكي الخيام، مثلما يبكي الليل أيضاً.

   رواية (خرفيش) للروائي محمود عيسى موسى، ابن قرية (أجزم) الحيفاوية، كتابة جديدة هادئة تحكي عن قرية (اجزم) المشاطئة لبحر حيفا، حين أصابتها لوثة النكبة بمقتل فهجرت سكانها واقتلعتهم لأن الموت وصل إلى كل بيت من بيوتها، ولأن الخوف عرّش قبالة البيوت مثلما عرشت الدوالي، وأن مقاومة الإسرائيليين بالصدور العارية والعصي والحجارة مرات ومرات، أدت إلى خسارات كبيرة، فالرصاص والقنابل وأصابع الديناميت لا تواجه بالصراخ، لذلك فالرواية تصف الخروج الحزين من قرية (اجزم) والناس في حيرة، وتوهان، وبكاء، وأسئلة، وخوف وجوع، وعطش، وأمراض، وغيبوبة، جعلتهم لا يدركون حقاً ماذا حدث، وكيف حدث، وإلى أين يذهبون، وأين ستقر بهم الأمكنة، أو إلى أين سيقودهم حظهم البائس الأسود، لقد تركوا كل شيء على حاله، البيادر ملأى بالمواسم التي حصدت، والبيوت ملأى بما جنوه، وقطعان الماشية ترعى في المروج والحقول التي حصدت، تركوا البساتين، والبيارات، والغدران، والحواكير، ومستودعات الحبوب وجرار العسل والزيت والزيتون والسمن، تركوا (دلال) القهوة، والأفرشة واللحف، والزلالي، وصور الأجداد المعلقة على الحيطان مجاورة لكتب القرآن الكريم، خرجوا لينجوا بأنفسهم وأولادهم من الرصاص والموت والخوف الذي أعمى بصائرهم، لأيام كما قيل لهم.

    رواة الخروج من قرية (اجزم) التي غدت مثالاً ونمطاً لحالات الخروج الفلسطيني القسري  والموجع والحزين، هم العجائز من الذكور والإناث، الذين عرفوا القرية قبل النكبة، وفي أثنائها، وفي زمن الخيام، العجائز من النساء الباكيات ليل نهار، والعجائز من الذكور الذين عاشوا حالات الذهول والتذكر والجنون والأسئلة المرة: كيف، ولماذا، ومتى، وأين...؟ وهم الباكون في السر والعلن.

   يدور محمود عيسى موسى، في روايته، حول نباتات (الخرفيش) مثل كاهن في معبد ليعرف معاني الحياة، والأحلام، والعمل، والصبر ، وما مر من أيام وسنوات مثقلة بالألم ... ليقدم للقارىء ما يعرفه عن هذا النبات العجيب، النبات الشوكي، صاحب التاج الزهري البنفسجي الذي تتحدث عنه الجدة (أم عيسى) الراوية الأولى لهذه الرواية، وكأنها تتحدث  عن طعوم الحياة المرة والحلوة، فسوق نباتات الخرفيش حلوة ولذيذة بعد أن يسلخ عنها لحاؤها، وزهراتها البنفس جية الدائرية المشعة بهجة للنظر، أما أشواكها فهي سياج محكم يترصد كل يد تمتد نحوه، فهل يا ترى كان سر الخروج وسر النكبة جلياً واضحاً في صورة هذه النبتة (الخرفيش) وطبيعتها، أكانت الجدة (أم عيسى) تريد القول، وهي تقص حكاياتها عن قرية (اجزم) وحقول خرفيشها: كان علينا أن نتعلم كيف نحمي تاجنا الدائري البنفسجي بسياج شوكي يقظ مثل نبات (الخرفيش) ، يا لهذه الفطنة ويا لهذه النباهة من الراوي محمود عيسى موسى، اللتين جعلتا من نبات الخرفيش رمزاً دلالياً لما حدث، ومعادلاً موضوعياً لنكبة الخروج الفاجع الذي مازال دامياً منذ 77 سنة.

   الجدة (أم عيسى) تتحدث عن الماضي، عن الأرض السعيدة، عن اللبن والعسل، عن أجراس الماشية الآتية إلى (مرحها/ الأمكنة التي تبيت فيها) عند الغروب وقد لفتها ضجة الأجراس التي تعلن عن اختتام يوم سعيد، وعن طيور السنونو التي بنت أعشاشها في سقوف البيوت، وعن هدير البحر الذي يملأ بأنفاسه دواخل البيوت، وعن الدروب والحقول والينابيع والغدران والبيادر والحواكير التي كتبت سيرة القرية وأهلها، أما الأبناء والأحفاد فهم يتحدثون عن زمن المخيمات، وقلة الحيلة، والأحزان، وطحين وكالة الغوث الدولية، و(بقج) الثياب العتيقة، والخيام، وألواح التوتياء والاسبست، وحالات القهر، وغياب الأحلام.

   زمن رواية (خرفيش) لمحمود عيسى موسى، هو زمن سنوات الحيرة، والأسئلة الموجعة، والهموم الثقيلة التي تلت النكبة، لذلك نرى الأحزان، وحالات الفقد، وصور الخيبات، والتوهان كثيرة، قبل أن تضاء نهارات المخيمات بالحديث عن (الفدائيين) والمقاومة، والبنادق، والخنادق، وثياب الفوتيك، والأحلام الجديدة، وتكاثر قولات الناس، وجهرهم بأن الحياة مركزة في معنى (العودة إلى البيت).

   ميزة هذه الرواية (خرفيش) أنها مكتوبة بهدوء، وبعيداً عن النمطية، فهي، ومن ناحية التكنيك، لا تماشي أساليب السرد المعهودة في كتابة الرواية، لأنها بنيت على على تقنية (التراسل الفني) ما بين أجناس الأدب والفنون الإنسانية، ومؤمنة بأن هذا النهج هو الأصل في الإبداع، فهذه الرواية مكتوبة بالشعر، والقص، والحوار المسرحي، وألوان اللوحات وكتلها، وبالنوتات الموسيقية، وأنواع الرقص (في الخطوات والدوران، والالتفات، والقفز، والإيحاء، والإيماء) وبطبقات الغناء، إنها كتابة أخذت من كل فن جانباً، أو طرفاً، ورمته في موقدة السرد، لتصير النتيجة، دوراناً رهيباً جميلاً حول نبتة شوكية هي (الخرفيش)، في قرية صغيرة هي ضاحية من ضواحي حيفا اسمها (اجزم)، ذلك الدوران أبدى مقاومة أهل القرية للعصابات الإسرائيلية، مثلما أبدى جراح النكبة  ومعاني التهجير، ومثلما أبدى المعاناة الرهيبة التي كابدها الناس في المخيمات قبل أن تشرق نهارات أهل الفداء، وقبل أن تبدو الأحلام عزائم ووقائع حقيقية... فاخرَ بها كل بيت.

اخترنا لك