"سَنَد 2025": من رحم الإبادة يولد النور
ملاك أثبتت، كما رفاق دفعتها، أن الهمة لا تُقتل، وأن صاحب الحلم لا يوقفه شيء إذا قرر أن يكمله. شكراً لملاك وزملائها على سعيهم وصبرهم وهديتهم الباهظة الثمن لأهاليهم ومدنهم. هذه الفرحة لا تُقدّر بثمن.
تنتصر الضحية بعدم استسلامها. تنتصر بتحقيق أحلام تصون كرامتها وبإنجازات تسمو بها. وينتصر قطاع غزة بطلابه الشغوفين الذين ينحتون معنى الإنجاز من قلب الركام.
نقف اليوم في قطاع غزة على أعتاب تخرّج عظيم لطلاب دفعة "سَنَد 2025" من كلية الطب البشري في "الجامعة الإسلامية". وخلف هذا التخرج الذي يبدو نجاحاً عادياً، تختبئ معاناة عامين من الحرب، حملها كل طالب على كتفيه.
في بداية الحرب، انقطعت مسيرتهم التعليمية بالكامل. تحطمت خططهم، وقيل لهم: "لا تعليم. لا شهادة معترف بها في الخارج". حاولوا السفر لإنقاذ مستقبلهم الدراسي، لكن السفر نفسه كان شبه مستحيل.
كان طلاب الطب أمام سؤال قاس: هل يبدأون دراسة الطب من جديد في بلد آخر؟ هل يضحي من درس 4 سنوات بكل ما تعب لأجله ويبدأ من الصفر، أم يبقى معلقاً ينتظر حلاً قد لا يأتي، فيما مستقبله يذوب أمام عينيه؟
بعد أسابيع وشهور من القصف والنزوح، أعلنت "الجامعة الإسلامية" استئناف العملية التعليمية والتدريب العملي لطلبة الطب. هذا القرار جاء وسط القصف، وسط الطوارئ، في مستشفيات تعمل تحت النار. حجم الضغط على الطلاب كان أعلى من قدرة الإنسان الطبيعية.
من بين هذه الدفعة المكوّنة من 130 طالباً وطالبة كانت الدكتورة ملاك أحمد الصوفي. في صباح اليوم التالي مباشرة لنزوحها من مدينة رفح، جاءها قرار بدء التدريب العملي. في تلك المرحلة، كان عدد المستشفيات التي ما زالت قادرة على العمل لا يتعدى 3 في جنوب القطاع و 2 في شماله. أقرب مستشفى لها لم يكن قريباً. كانت تمشي مسافات طويلة على قدميها، وتنتقل بوسائل بدائية.
الصعوبة لم تكن جسدية فقط، بل دراسية ونفسية أيضاً. ملاك كانت تدرس في خيمة، بين إخوتها، بلا إنترنت يسهّل الدراسة أو يوفّر مراجع.
تحكي ملاك: "في يوم جمعة، بعد الغداء، شن الاحتلال هجوماً على محيط مستشفى الصليب الميداني القريب منا. تحولت المنطقة إلى مجزرة، وبدأ النازحون يفرون. تبيّن أن الهجمة نفذتها دبابة صعدت إلى تلة وأطلقت قذيفة قتلت ودمّرت وسرقت الأمان من كل من كان في هذا المكان. في ذلك اليوم، اضطررت وعائلتي إلى نزوح مفاجئ غير مخطط، رغم أن امتحاني كان في اليوم التالي. ومع أننا لم نكن قد استقررنا بعد في مكان النزوح الجديد، خرجت ليلاً وقدمت الاختبار صباحاً، ثم واصلت دراستي ودوامي في المستشفى".
كانت ملاك تعود من دوامها محمّلة بمشاهد الحرب: أشلاء. إصابات حرجة. محاولات إنعاش لا تنتهي. في أحد الأيام امتلأ المستشفى بالشهداء والجرحى بعد أن أسقط الاحتلال ما يقارب 6 صواريخ على منطقة في مواصي خان يونس. كانت مجزرة، تجاوز فيها عدد الشهداء المئة. ومن بين الشهداء كان ابن خالها. لم يمر الخبر مروراً عابراً. العين تدمع على من سمعنا باسمهم، فكيف على من كان يجلس معنا في كل عيد. كان هذا أول الفقد وليس الأخير.
الفقد تكرر. صباحاتها أصبحت مرتبطة بمشرحة ناصر، بوجوه أهل القلوب المكسورة. استشهد خالها الدكتور موسى خفاجة مع ثلاثة من أبنائه. تلك الليلة لم تعرف النوم من بعد الفجر. وأثناء جنازتهم كانت تقدم امتحاناً في المستشفى نفسه الذي كفنوا فيه.
لم يمر أسبوع حتى وجدت ملاك نفسها تنزح مجدداً وجهاً لوجه أمام الدبابات، وعلى ظهرها أهم ما استطاعت حمله. "المنطقة الإنسانية" كانت تُضيَّق أكثر فأكثر، والخيام تتكدس فوق بعضها.
في ذلك الأسبوع كان الكل ينزح. في إحدى المرات، ومع دخول الدبابات فجأة عصراً، اضطرت عائلتها إلى الهرب فوراً. بقوا في الشارع حتى المغيب. قرروا المبيت عند قريب. ومع أول خيط شمس عادوا إلى خيمتهم ليجمعوا ما يستطيعون حمله والنزوح من جديد. بالكاد وجدوا مكاناً آخر. وبعد أسبوع فقط، أعلن الاحتلال تلك النقطة أيضاً منطقة خطرة، فاضطروا إلى مغادرتها والعودة إلى حيث كانوا.
ومع كل هذا، ظلت ملاك تذهب إلى "مستشفى ناصر" رغم أنه داخل منطقة وُصفت بأنها "منطقة خطر". كانت تشعر بجسد المستشفى يهتز من شدة القصف. في أحد الأيام غادرته بعد انتشار خبر أن عملية عسكرية ستُشن عليه. وفي يوم آخر، قصف الاحتلال الطابق العلوي من مبنى الطوارئ في المستشفى بينما كانت الصحافة موجودة. كانت ملاك تمشي باتجاه المبنى لتلتحق بمحاضرتها، لكنها وجدت نفسها بلا وعي قد وصلت إلى خيمتها من شدة الصدمة.
بعد فترة استشهد ابن خال آخر لها. أُصيب ابنه الأكبر إصابة خطرة، وكانت تتابع حالته بنفسها. لكنها فقدته بعد أسبوع من القلق والأمل. هذه الحادثة كسرتها كثيراً. ولم تكن قد التقطت أنفاسها بعد، حتى مُسحت عائلة ابن خالها كاملة من السجلات المدنية. فقدت 17 فرداً من عائلتها.
ورغم ذلك، ومع مجاعة ضربت كل زاوية في القطاع لأشهر طويلة، أكملت ملاك الدراسة وواصلت تقديم الامتحانات. هذه سنتها الأخيرة. لا مكان للتأجيل أكثر.
هذا القليل فقط مما مرت به ملاك. فمشاعر دوامها لم تكن مجرد مناوبة طبّية. كانت مزيجاً من فقد وخطر وواجب.
انتهت الحرب بعد عامين. عامان مرا على رؤوس طلاب الطب كأنهما سنين. شابوا قبل التخرج من قسوة التجربة. لكن الحرب لم تنه أحلام أهل القطاع. أحلامهم الآن تنضج.
يوم الأحد المقبل في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، ستحتفل "الجامعة الإسلامية" في غزة بتخريج 130 طالباً وطالبة طب. 3 من زملائهم ارتقوا شهداء خلال الحرب. يوم الأحد المقبل سيُعلن رسمياً عن تخريج 130 طبيباً وطبيبةً. ستُرفع أسماؤهم عالياً. سنسميهم كما يستحقون، لأن إرادتهم وطموحهم صمدت أمام أطنان من القنابل.
سينالون ما تمنوا. أنتم يا أهل المستحيل، استقبلوا حلمكم متحققاً. بقدر ما عانيتم وأنتم تركضون خلفه، أنتم تستحقونه. دفعة "سَنَد 2025"، ستكون السند المداوي لقطاع غزة الجريح.
ملاك أثبتت، كما رفاق دفعتها، أن الهمة لا تُقتل، وأن صاحب الحلم لا يوقفه شيء إذا قرر أن يكمله. شكراً لملاك وزملائها على سعيهم وصبرهم وهديتهم الباهظة الثمن لأهاليهم ومدنهم. هذه الفرحة لا تُقدّر بثمن.
