"كابتن الخير"… وداعاً
لقد كانت وجهاً من وجوه النبطية، بل جزءاً من نسيجها الإنساني. رحلت، وانطوى معها فصل من فصول زمن جميل، زمن كانت فيه القلوب متقاربة، والأيادي متشابكة.
-
ماجدة خريزات
عاشت حياتها منتمية إلى شريحة "العاديين" من الناس، امرأة بسيطة المظهر، عفوية الكلام، بلا تكلف ولا استعراض، على شيء من لا مبالاة من لا يريد شيئاً من متاع الدنيا.
إلا أن نبأ رحيلها لم يكن خبراً عادياً في مسامع كل من عرفها أو التقاها ولو لمرات معدودات، بل كان انطفاء لمشعل من نور الطيبة والبساطة، وانكساراً لساقية كانت تروي ظمأ القلوب العطشى في زمن الجفاف الإنساني وتدهور العلاقات بين الناس.
رحلت "الكابتن" ماجدة خريزات، لكنها تركت في كل ركن من أركان مدينتها النبطية نبعاً من الذكريات، ووجعاً لا يسكته إلا اليقين بأنها عاشت حياتها كما أرادت، فارسة في ميدان العطاء الذي تجيده: تيسير أمور الآخرين.
لم تكن تحمل لقب "كابتن" من فراغ، بل رُقّيت إلى هذه الرتبة الرفيعة بسنوات من الخدمة الصادقة. كانت رايتها التي ترفعها هي ابتسامة المحتاج، وسلاحها كان لساناً صارماً إذا اقتضى الأمر، لكنه لم يخلُ يوماً من طرفة تذيب الجليد، أو كلمة لاذعة تزيل العثرات من طريق المظلوم.
في أروقة الدوائر الحكومية، حيث يتكدس اليأس وتضيع الحقوق بين الأوراق، كانت "الكابتن" ماجدة هي الجسر الذي يعبر عليه الناس إلى حلِّ مشاكلهم. كانت ببساطتها وعفويّتها أقوى من كل التعقيدات، وكان طلبها "أمراً" لا يُرد، لأنها جعلت من مساعدة الآخرين شرفاً لا يُمس.
وكان لبيروت نصيب من عطائها الذي لا ينضب. ففي رحلاتها إلى "ملتقى خيرات الزين الثقافي"، كانت تتحول إلى رسولة حنونة تحمل معها عبق الريف وصفاءه. لم تأتِ فارغة اليدين أبداً، بل كانت تزفُّ إلى أصدقائها كنوزاً من أرض الجنوب المباركة بدماء الشهداء ودموع الأمهات وعرق الفلاحين والعمّال: لبناً بلدياً كالضحى النقي، وخبزاً مرقوقاً تعبق رائحته بنكهة البيوت الراضية المرْضية، وخضاراً موسمية كأنها هدايا الأرض لأبنائها.
كان حضورها يضفي على أجواء الملتقى دفئاً وأنساً لا يقاومان، فما كانت تهدأ ولا تستكين، دائمة الحركة، تقدم لهذا فنجان قهوة كأنه هبة من روحها، ولذاك شربة ماء فيها بركة يدها.
وفي زحمة الحضور، بين الشعراء والأدباء، كانت بطرافتها وذكائها النادرين تنسج خيوطاً خاصة في النقاش. تعلق على أحاديثهم بعبارات سريعة لاذعة، تثير الضحك والإعجاب، لا لتقاطع، بل لتؤكد أنها جزء من نسيج هذا اللقاء الفكري والقلبي. وكانت تكنّ مودة خاصة لأصحاب الأرواح المرحة المشابهة لروحها، فتشكّل معهم شعاعاً يضيء أرجاء المكان ببهجته وصدقه.
ولأنها كانت على هذا النحو - تساعد وتخدم الجميع - لم يكن غريباً أن تكون جنازتها حدثاً يليق بمشاهير المدينة وكبارها. اجتمع المئات من كل الفئات والشرائح، جاءوا من كل حي وشارع ليودعوا "كابتن الخير".
لم يكن مشهداً عادياً أن تجتمع المدينة بكل تلاوينها لوداع جثمانها، لا لأنها كانت صاحبة منصب رفيع، بل لأنها كانت تمثل أعلى درجات الإنسانية: لا تملك الكثير، لكنها تعطي الأكثر. التحية لا لرتبة رسمية، بل لرتبة خدمة الناس التي حملتها بكل فخر طوال حياتها.
لقد كانت وجهاً من وجوه النبطية، بل جزءاً من نسيجها الإنساني. رحلت، وانطوى معها فصل من فصول زمن جميل، زمن كانت فيه القلوب متقاربة، والأيادي متشابكة. رحلت عن أعيننا، لكنها ستظل حية في ضمير المدينة، في كل ابتسامة أزهرت بفضلها، في كل معاملة أُنجزت بـــ "واسطتها"، وفي كل بيت دخلته فرحة بهديتها البسيطة.
رحلت برتبة شرف، هي أعلى الرتب. رتبة "محبة الناس". فسلامٌ عليكِ أيتها الكابتن، يوم وُلدتِ، ويوم عشتِ بطيبة قلبٍ معطاء، ويوم رحلتِ إلى ربٍّ رحيم. لن تنساكِ النبطية، ولن ننساكِ نحن الذين كنا نبتسم كلما لاح طيفك من بعيد، لأن العطاء مثل الطِّيب، أثره يبقى حتى بعد أن يغيب مصدره.
وداعاً…
إلى هناك،
إلى مصدر كل طِيب،
إلى حيث يستريح الأخيار.