"ماذا تبقى": سؤال المستقبل للعراقي عادل عابدين
في مضمون اللوحات إشارات إلى تاريخ عراقي متغلّب على المأساة، يتمثل ذلك بنوعية الضوء، في بلد تسطع حرارة الشمس فيه إلى ذروة الاشتعال، وبعلاقة ما بين الأرض والماء، كأنها علاقة دجلة والفرات بسهوب ما بين النهرين.
-
ثلاثية "انجراف" لعادل عابدين
من العراقية إلى الأممية، يعالج الفنان العراقي، عادل عابدين (1973)، مأساة بلاده، نموذجاً لعالم ما فتىء يعيش مأساته، متّسماً بالحروب، والعدوان وذلك في معرضه "ماذا تبقّى؟" في غاليري "تانيت" في بيروت.
في المعرض لوحات تشكيلية تتراوح بين التجريد والتعبير، بألوان شفافة، وهادئة، مادتها خفيفة. أكريليك على كانفا، وفراغاتها واسعة، يشكّل الأفق رابطاً في ما بينها، تتلألأ خيالاته متراوحة بين الثبات والتحوّل، جامعةً تناقض الواقع الراهن، ورؤى المستقبل، رافضاً بذلك انسداد الآفاق على رغم عمق المأساة، ویستكشف أثر الصدمة علی الذاكرة، والوعي الجمعي.
عراقية عابدين تتمثل في خصوصيات البلد العريق بتاريخه، وتراثه، وما تركه من أثر على العالم عبر عصور كثيرة، تبدأ من أكاد وبابل في التاريخ القديم، والتاريخ المزدهي زمن العباسيين، بلوغاً للعصر الحديث؛ ثراء تاريخي لا يسمح بالشعور بالنهاية، بل بالنهوض بعد كل سقوط، والعمران بعد كل دمار.
في مضمون اللوحات إشارات إلى تاريخ عراقي متغلّب على المأساة، يتمثل ذلك بنوعية الضوء، في بلد تسطع حرارة الشمس فيه إلى ذروة الاشتعال، وبعلاقة ما بين الأرض والماء، كأنها علاقة دجلة والفرات بسهوب ما بين النهرين، وتتشظى العناصر والأشكال الملونة بخفر، لتعبّر عن نوع الدمار "العراقي" إذا جاز التعبير.
في مجموعة النصب المعدنية، لا يختلف المشهد كثيراً عن اللوحات اللونية، رغم تباين المادة وتعبيراتها. لكنها تتضمن بقايا أشياء، يسميها عابدين بــ"ما تبقّى". ترمز بشفافية، وتباسق أشكال، وخفر انحناءات، إلى تكسّرٍ بطريقة ما، أو انزواء، تستكمل المشهد التشكيلي، فينتقل المشهد التشكيلي من ثنائية البعد إلى ثلاثيته، في انسيابية شمولية، تنتفي معها الفروقات، ويتحوّل النزوح والتھجیر إلى أمل بالتجدد في غمار الأزمات العالمية الغامرة للأرض كطوفان نوح.
كل نصب، كما كل لوحة، تروي قصص الخراب والانهيار، من جهة، لكن تبعث على نزوع الصمود والبقاء، من جهة أخرى، وتصبح الأعمال ذاكرة جامعة حافظة لمساري الخسارة والتجدد المتناقضين.
-
لوحة "فوق الهاوية"لعادل عابدين
معرض عابدين شهادة للخروج من ركام الدمار الكارثي، إلى ركائز مستقبل منبعث، فتصبح بذلك فعل مقاومة، واستمرار.
وتحتل اللوحة الثلاثیة "انجراف" موضع بيضة القبان في المعرض، وفيها تتوزع بقایا سفینة مدمـرة على 3 لوحات، تبدأ من الطرف بحطام سفينة، وتمتد إلى الأجزاء الباقية، لیصبح حطام السفینة تأمّلاً في الخراب، وما یخلّفه من بقایا.
ثم "أكواریوم" لوحة ثنائية، تكرّس فكرة الكارثة من خلال بیئتھا المائیة الممیزة، حیث تنجرف بقایا صناعیة، وأشكال عضویة في مجال مائي یوحي بالغمر والعزلة معاً.
أما لوحة "نازحون" فتعكس شكلين بلون أزرق، فمشھد متداخل من خطوط متكسِّرة، وبقایا عضویة، وفي وسط اللوحة، یرفع النازحون أبصارھم نحو خیمة تتحوّل إلى سحابة مضیئة. لوحة تستكمل المشهد العام بين أرضٍ يابسة، ووعد بالخلاص.
وتعالج اللوحة مسألة طرد الإنسان من أرضه وبیته، بينما يصرّ على تجاوز الخراب؛ طبيعة إنسانية تقاوم من أجل البقاء، ونزوع إلى الصمود الذي رافق البشر في مختلف مراحل حياتهم.
أما في لوحة "فوق الھاویة" فاستمرار للصراع بين الهزيمة والصمود، وفيها طیف سفینة أعلى الیمین، وشخصیات تقترب عند حافة فراغ شاسع، معلّقات بین الھروب والھلاك، في منظر هو أقرب إلى مركبة فضائیة منه إلى منظر طبیعي.
ولا تختلف لوحة "تحوّل" عن سابقاتها في جمع المتعارضات، فهي تأمل في النزوح والبقاء. یظھر العمل كمنظر متحوّل تتداخل فیه الخطوط والشظایا عبر السطح، لتذیب الآفاق الواضحة، وتخلق إحساساً بالحركة بین البناء والانهيار.
يذكر أن عادل عابدين فنان عراقي يمزج عمله بين الفكاهة، والتأمّل النقدي، متطرّقاً إلى مواضيع الصراع، والذاكرة، والنزوح عبر وسائط متنوعة.
-
لوحة "نزوح" لعادل عابدين
ومنذ تمثيله فنلندا في بينالي البندقية الــ 52، عرض عابدين أعماله حول العالم، حيث أقام معارض رئيسية في متحف الفن المعاصر في باريس، ومتحف كياسما في هلسنكي، ومتحف موري للفنون في طوكيو، ومتحف لويزيانا للفن الحديث في الدنمارك، ومتحف الدوحة.
عُرضت أعماله في بيناليات رئيسية، بما في ذلك بينالي البندقية، وسيدني، والشارقة، والقاهرة، وموسكو وسواها، وعُرض مؤخراً عملان فنيان بارزان في عام 2024: "الثورة"، وهي دراسة عن ثورة الزنج في البصرة (869-883 م)، و"كانوا هنا".
حاز على العديد من الجوائز، منها جائزة إثراء للفنون (2023) وجائزة فنلندا للفنون البصرية (2015)، ورُشّح لجائزة آرس فينيكا (2012).