"الأشجار تمشي في الإسكندرية": محاكمة غير عادلة لعبد الناصر

هذه الرواية هي خامسة في عمارة الأسواني الروائية بعد سلسلة روايات ومجموعات قصصية ناجحة أهّلته للعالمية، حيث تتناول أجواء مدينة الإسكندرية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر.

  • "الأشجار تمشي في الإسكندرية" للروائي العالمي علاء الأسواني

يستدعي عنوان رواية "الأشجار تمشي في الإسكندرية" لعلاء الأسواني، الصادرة عن "دار نوفل" في بيروت، أسطورة زرقاء اليمامة التي كانت ترى ما لا يراه قومها، لتحكي قصة مدينة الإسكندرية إبان فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر، من خلال مصائر أبطالها ومآلات أحداثها بعد ثورة 1952.

يقول الأسواني على لسان أحد أبطاله الفنان التشكيلي أنس الصيرفي: "الفنان مثل زرقاء اليمامة، يبصر دائماً قبل الآخرين".

ابتسمت ليدا وقالت:

- وأنت ماذا ترى الآن أيها الفنان؟

قلت: الأشجار تمشي في الإسكندرية..

المعركة في الإسكندرية كانت معركة بين الجمال والقبح، بين الحضارة والعملية. لقد قاومت الإسكندرية طويلاً بفضل تراثنا الحضاري، لكنها هُزمت وآن لها أن تستسلم. الإسكندرية التي نعرفها تختفي الآن شيئاً فشيئاً، لتحلّ مكانها إسكندرية أخرى لا تعرفنا ولا تحبّنا".

الرواية التي جاءت خامسة في عمارة الأسواني الروائية بعد سلسلة روايات ومجموعات قصصية ناجحة أهّلته للعالمية، تتناول أجواء مدينة الإسكندرية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، مركّزةً على التغيّرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي واكبت التحوّل من الملكية إلى الناصرية، وانعكاسها على مجتمع الإسكندرية الكوزموبوليتاني الذي تختلط فيه الأعراق والأنساب بين تركية، يونانية، فرنسية، وإيطالية...

يسلّط الكاتب الضوء على مجموعة من هؤلاء الأجانب الذين كانوا يشكّلون مع أهل البلد المجتمع الإسكندراني بفسيفسائه المنسجمة مع بعضها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

تحملنا أحداث الرواية إلى ذلك المجتمع بيومياته وأحاديث سهراته، ولا سيما سهرات شلة الكوكاس التي كان يحضرها القنصل الأميركي في الإسكندرية وأصدقاؤه من مثقّفين ورجال أعمال وسيدات مجتمع يمثّلون عيّنة من الطبقة الأرستقراطية الإسكندرانية، المتضرّرة من سياسات الثورة العتيدة، من دون أن يذكر على ألسنة أبطاله إنجازاً واحداً لما كان يطلق عليه ثورة الضباط الأحرار.

بدت الرواية وكأنها حفلة جلد لثورة غيّرت معالم المدينة، فالطموحات السياسية بالتغيير المقبل أُجهضت، والمنشآت الناجحة أُمّمت وتحوّلت إلى منشآت حكومية مترهّلة، بعد قرار التأميم، وذلك بسبب القرارات البيروقراطية، وتعيين مديرين تبعاً لولائهم السياسي، بالرغم من افتقادهم للكفاءة المطلوبة لتسيير هذه المنشآت. 

يكشف الأسواني لنا عوالم الليل وبناته وفتواته والناس الذين يعيشون في القاع، واستغلال ضباط الأمن لأجسادهن للإيقاع بضحايا تشغّل لاحقاً لصالح الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، هذه الأجهزة التي قطعت هواء الحرية عن المدينة، ولاحقت حتى خطباء المساجد، وراقبت خطب الجمعة، ولجأت إلى تحريرها وتوزيعها على المبلّغين والخطباء، فضلاً عن ملاحقة الأجانب ذوي الأصول الغربية بنظرات الريبة والتوجّس والمكائد، كلّ ذلك جاء تحت لواء الثورة، التي أفقدت المصريين وعيهم فاستسلموا لهستيريا أصابتهم بجنون جماعي، فعبدوا الزعيم السكران بالسلطة المطلقة.

بلغته البسيطة والسلسة، يقدّم صاحب "عمارة يعقوبيان" مروحة واسعة من الشخصيات الغنية المتنوّعة، بين المثقّف أنس الذي يرى بعين زرقاء اليمامة مستقبل المدينة القاتم وتراثها المضمحل تحت أقدام العسكر، وتوني رجل الأعمال الذي سلبته السلطة الجديدة مصنع الشوكولاته الذي أفنى عمره في بنائه، ومدام شانتال لوميتر صاحبة مكتبة بلزاك الشهيرة في شارع فؤاد الأول، وعدلي اللقيط الذي يمثّل فتوات المجتمع الإسكندراني، وصاحبته الراقصة نعمت التي تقذفها ظروفها العائلية البائسة في أحضان الليل، وجورج أرتينوس صاحب مطعم أرتينوس، وهو من أفضل المطاعم في الإسكندرية ومصر، هذا المطعم الذي يديره كارلو ابن مارتا الإيطالية، يحتل حيّزاً من أحداث الرواية حيث تجتمع شلة الكوكاس، ومن هناك تطلق مواقفها وآراءها في ما يدور حولها من أحداث. 

نجحت الرواية في تعريفنا بالإسكندرية وأسلوب عيش أهلها قبل سقوط الملكية وبعدها، وبالغت في تصوير خيبة المصريين بسبب عدم تحقيق العدالة الاجتماعية المقبلة التي انتظروها طويلاً، وقمع الحريات، وزج المثقّفين في السجون، كأنّ مصر كانت جنة عدن قبل ثورة عام 1952.

"الأشجار تمشي في الإسكندرية" أشبه بمحاكمة غير عادلة لثورة عام 1952 فضحت الجوانب المظلمة في هذه الثورة، وأخفت كلّ إنجازاتها، كإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية وتأميم قناة السويس عام 1956، وإنهاء السيطرة الأجنبية عليها، وإقرار سياسات الإصلاح الزراعي وبناء السد العالي لتوليد الكهرباء، وتنظيم الريّ والاهتمام بالتعليم من خلال التوسّع في المدارس والجامعات ومجانية التعليم، إضافة إلى إنشاء قطاع عامّ صناعي ومصانع كبرى للحديد والصلب والغزل والنسيج، ودعم حركات التحرّر العربي والأفريقي، وإطلاق الهوية القومية العربية.

لم تذكر الرواية أيّاً من هذه الإنجازات، وإنما جاءت بحبكة روائية متقنة وأصوات شخصيات غنية في تنوّعها، لتشكّل صوتاً واحداً يلهج بإدانة الثورة ويوجّه إليها انتقادات تتعلّق بالحريات السياسية، وقمع المعارضة والتأميم....

لا تحكي رواية "الأشجار تمشي في الإسكندرية" خيبة الأمل المصرية فحسب، وإنما تكشف خيبة أمل الشعوب العربية في ثوراتها وأنظمتها العسكرية التي وصلت إلى السلطة عقب الحرب العالمية الثانية، وتبيّن قسوة هذه الأنظمة الشمولية وظلم قبضتها الأمنية، الأمر الذي أوصل هذه الشعوب إلى هذه اللحظة من السكون وفقدان الأمل بالثورات التي يقودها العسكر مهما بالغت في إطلاق الشعارات. 

اخترنا لك