أثر التكنولوجيا على العلاقات العاطفية

رغم أنّ وسائل التواصل الاجتماعي تتيح للأفراد التواصل مع الآخرين، إلا أنها يمكن أن تؤدّي إلى النقيض تماماً، إلى الشعور بالوحدة والعزلة. 

  • الإنسان المعاصر أصبح يعيش حالة من
    الإنسان المعاصر أصبح يعيش حالة من "الاغتراب" بعد أن اقتُلع من جذور

في ظلّ الثورة التكنولوجية التي تجتاح عالمنا، لم تَعُدِ المشاعرُ الإنسانية بمنأى عن تأثيراتها العميقة، حيث أخذت تتحوّل تدريجياً من كونها تجاربَ إنسانية خالصة إلى سِلَعٍ في سوق استهلاكية هائلة. نتناول هنا بالتحليل كيف أعادت التكنولوجيا صياغة العلاقات العاطفية، وكيف طغت المادية على حساب العمق الإنساني، مُستكشفين الآليات التي تتحكّم بهذا التحوّل وتداعياته على الذات الإنسانية.

اغتراب الإنسان في الزمن الرقمي

لم يعد خافياً على أحد ذلك التحوّل الجذري الذي أحدثته التكنولوجيا في حياة البشر، فقد تجاوز دورها الوظيفي الميكانيكي ليتغلغل في الوجدان والهوية، مؤثّراً في الطريقة التي "نشعر بها، نحبّ بها، نغضب، نحزن، ونفكّر". وكما حذّر المفكّر آلفين توفلر من قبل عندما قال: "لقد جلبت لنا الحضارة نمطاً عائلياً جديداً، وغيّرت طرق العمل، والحبّ والمعيشة، وظهر اقتصاد جديد نتجت عنه مشكلات سياسية جديدة، وفي خلفيّة كلّ ذلك تبدّل وعي الإنسان". إنّ هذه الرؤية الاستباقية تؤكّد أنّ التكنولوجيا لم تعد مجرّد أداة، بل صارت قوة فاعلة تُشكّل، تُعيد إنتاج، وأحياناً تُدمّر ما يُعرف بـ "الذات الإنسانية".

الإنسان المعاصر أصبح يعيش حالة من "الاغتراب" بعد أن اقتُلع من جذوره، وأصبح خاضعاً لمؤثّرات خارجية في عالم يتغيّر كلّ يوم وبسرعة هائلة، تفرض عليه تغييراً مستمراً في وعيه وتجاربه العاطفية.

لقد شهدت المشاعر الإنسانية تحوّلاً جذرياً في العصر الرقمي، حيث لم تعد تتشكّل ضمن أطر الحياة الواقعية التقليدية فحسب، بل أصبحت تُستثار وتُوجَّه عبر الشاشات والمنصات الرقمية. وقد ظهرت أنماط جديدة من المشاعر توصف بأنها "سريعة الزوال، سطحية، موجّهة بالخوارزميات، ومُستهلَكة ضمن سياق ترفيهي أو تفاعلي".

السكتة العاطفية 

يشير مفهوم "السكتة العاطفية" إلى حالة من الخدر النفسي التي يعانيها الفرد المعاصر، حيث يشعر بعدم القدرة على الإحساس الحقيقي: لا فرحاً ولا حزناً، مجرّد حياد داخلي مزمن. وترجع أسباب هذه الحالة إلى عدة عوامل:

· التحفيز المستمر للمشاعر: يتلقّى الفرد آلاف الرسائل العاطفية عبر الإعلانات والفيديوهات والميمات، مما يؤدّي إلى تشبّع النظام العصبي وفقدان القدرة على الاستجابة الطبيعية.

· فقدان التفاعل الإنساني الحقيقي: حيث يختزل التفاعل الرقمي في رموز تعبيرية (emojis) تضعف القدرة على فهم المشاعر العميقة والمعقّدة.

· المقارنة المستمرة: يقارن المستخدمون أنفسهم بما يُعرض في حياة الآخرين الرقمية من نجاح وسعادة وسفر، مما يولّد شعوراً بـ "انعدام القيم و"اللا شيء".

تحويل المشاعر إلى سلع 

لقد أصبحت المشاعر الإنسانية سلعة ثمينة في السوق الرقمية، حيث تُستغلّ من خلال         آليات متطوّرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات. فالتقنيات الناشئة مثل "الحوسبة العاطفية" تهدف إلى تطوير أنظمة قادرة على التعرّف إلى مشاعر الإنسان والتفاعل معها، مستخدمةً أدوات مثل تحليل تعبيرات الوجه، نبرة الصوت، معدّل ضربات القلب، واستجابات الجلد لتحديد الحالة الشعورية بدقة.

لم يعد التلاعب بالمشاعر يتمّ بشكل عشوائي، بل صار يُدار بأساليب علمية دقيقة تهدف إلى خلق استجابات نفسية محدّدة. فما يُعرف بـ "كلمة الذكاء الاصطناعي الشفهية" (aiWOM) يشير إلى التفاعلات بين المستهلكين وتقنيات الذكاء الاصطناعي التي تؤدّي إلى سلوكيات وردود فعل جديدة. وهذه التفاعلات يمكن أن تثير مجموعة من المشاعر من السعادة والمتعة إلى الإحباط، مما يؤثّر على قرارات الشراء بطرق مدهشة.

تكمن الخطورة هنا في تحوّل الإنسان إلى مجرّد "بيانات شعورية" يُقاس ويُعدّل بحسب احتياجات السوق أو النظام، ما يهدّد مفهوم الحرية العاطفية والخصوصية النفسية. فبدلاً من أن تظلّ المشاعر تجربة إنسانية خالصة، تصير مُراقَبة ومُستغَلّة.

لا يقتصر تحويل المشاعر إلى سلع على مجال التسويق فحسب، بل يمتدّ ليشمل أعمق جوانب الإنسان العاطفية والحميمية. فالتطوّر المتسارع للذكاء الاصطناعي التوليدي، كما في النماذج المتقدّمة مثل GPT-4o التي تدمج الصوت والصورة في حوار طبيعي، لم يعد يقتصر على تقديم المعلومات، بل أصبح يصمّم خصيصاً ليحاكي علاقة الصداقة أو العلاقة العاطفية.

هنا، تتحوّل الحاجة الإنسانية الفطرية للاستماع والفهم إلى منتج يباع. يمكن لهذه النماذج الآن أن تقدّم الودّ العاطفي، والنصيحة، والاستماع اللا محدود من دون حكم، مما يخلق وهماً بعلاقة حقيقية. هذه "الصداقة الآلية" لا تُجرّد العلاقات من بعدها الإنساني التفاعلي فحسب، بل تطرح سؤالاً وجودياً خطيراً: ماذا سيتبقّى من إنسانيتنا عندما نفضّل التفاعل مع كيان لا يشعر بنا حقاً، ولكنه يتقن محاكاتنا؟ إنها آلية استهلاكية بارعة تبيع لنا وهم العلاقة لملء فراغ علاقتنا البشرية المتآكلة، مما قد يؤدّي إلى التخلّي التدريجي عن الجهد الحقيقي المطلوب لبناء علاقات إنسانية عميقة.

الاستهلاك العاطفي وآليات الإدمان

يرتبط التحوّل السلعي للمشاعر بآليات دماغية عميقة، حيث يُفرز الدماغ هرمونات السعادة مثل الدوبامين عند القيام بشراء سلعة جديدة، مما يجعل الإنسان يشعر بالمتعة ويدفعه لتكرار التجربة بشكل مستمر. هذه الآلية العصبية جعلت بعض الأطباء النفسيين يستخدمون ما يُعرف بمصطلح "التسوّق العلاجي" (Retail Therapy) كوصفة طبية لمعالجة بعض الصعوبات مثل التخفيف من التوتر أو القلق.

فيما تُسهّل التكنولوجيا أشكالاً جديدة من التواصل، فإنها تقوّض في الوقت نفسه أسس التواصل الإنساني الأصيل. فالتفاعل الرقمي يحلّ تدريجياً محلّ اللقاءات وجهاً لوجه، مما يؤدّي إلى تراجع العمق العاطفي في العلاقات.

التواصل السطحي والتباعد العاطفي

على الرغم من تسهيل التكنولوجيا للتواصل وجعل العالم "قرية صغيرة"، فإنّ الإفراط في استخدامها يمكن أن يؤدّي إلى تقليل التفاعل الاجتماعي الحقيقي. فقد نجد أشخاصاً يجلسون معاً جسدياً ولكنهم منشغلون بأجهزتهم، مما يُضعف جودة الحوارات والتواصل الفعّال بينهم. في العلاقات الزوجية على سبيل المثال، قد يؤدّي التركيز الكبير على العالم الافتراضي إلى إهمال التواصل الشخصي والمباشر بين الأزواج، مما يقلّل من الفرص لبناء التفاهم والتواصل الفعّال.

رغم أنّ وسائل التواصل الاجتماعي تتيح للأفراد التواصل مع الآخرين، إلا أنها يمكن أن تؤدّي إلى النقيض تماماً، إلى الشعور بالوحدة والعزلة. 

كما أن هناك ظاهرة "الحسد الاجتماعي" عندما يقارن الفرد حياته بحياة الآخرين المروّجة عبر هذه الوسائل، مما قد يؤدّي إلى تدنّي الثقة بالنفس وزيادة القلق. هذه الحالة تتفاقم مع التحفيز المستمر للمشاعر عبر المنصات الرقمية، مما يخلق فجوة بين التجربة الرقمية والحياة الواقعية.

طغيان المادة على القيم 

تعمّق التكنولوجيا من الهاجس المادي على حساب القيم الإنسانية الأساسية، حيث تروّج لـ "ثقافة الاستهلاك" التي تجعل الإنسان يعيش ليستهلك كلّ ما في السوق ويقوم بتجربته وشرائه على الرغم من أنّ ما يشتريه ليس في حاجة إليه. وقد ربط الإنسان غير الواعي بين حريته وذاته، وبين قدرته على الشراء، فأصبح للشراء لذة ومتعة.

بفعل ثقافة الاستهلاك صارت الذات الإنسانية تؤكّد وجودها من خلال المقتنيات والممتلكات لكن سرعان ما تفقد هذه الممتلكات بريقها، أو يظهر الجديد فيضطر المستهلك للحصول على مزيد من الممتلكات. وهكذا يدخل الفرد في دوامة لا تنتهي من الاستهلاك بحثاً عن الهوية والذات، لكنه لا يجد سوى الفراغ الداخلي. هذا الاغتراب يتجلّى في أنّ الإنسان قد "يمتلك سلسلة عقارات، ولكنه يجلس في بيت واحد. وربما في غرفته الخاصة لا يخرج منها. وقد يمتلك أسطولاً من السيارات ولا يركب إلا سيارة واحدة، ودواليب من الملابس، ثم لا يرتدي إلا ثوباً أو اثنين".

في العصر الرقمي، لم تعد التكنولوجيا مجرّد وسيلة مساعدة للإنسان، بل صارت أداة لتشكيل سلوكه وهويته بطريقة منهجية. فكثير من التطبيقات اليوم تعتمد على النموذج السلوكي الذي يقوم على مبدأ "الثواب والعقاب"، حيث يُكافأ السلوك المرغوب ويُردع السلوك غير المرغوب.

أصبحت وسائل التواصل بمثابة مصانع للمشاعر الجماعية، حيث تُستخدم بشكل منهجي في بعض الدول لصياغة الوعي العامّ والتأثير في الانتماءات الوطنية وتوجيه المزاج الشعبي. ويعتمد هذا التوجيه على أسلوب عاطفي مكثّف، حيث تُستخدم الموسيقى والصور الرمزية والتكرار البصري لبناء حالة شعورية جماعية تلقائية. الأطفال والمراهقون هم الأكثر تأثّراً بهذه الآليات، حيث يقضون ساعات طويلة في مشاهدة مئات المقاطع المتتالية التي تتلاعب بمشاعرهم بشكل لحظي وسريع. هذا التحفيز المستمر يُضعف قدرتهم على الشعور الطبيعي، ويخلق فجوة بين التجربة الرقمية والحياة الواقعية.

نحو استعادة الإنسان لإنسانيته

في الختام، يمكن القول إنّ التكنولوجيا أحدثت تغييرات جذرية في طبيعة العلاقات العاطفية والمشاعر الإنسانية، حيث ساهمت في تحويلها إلى سلع في سوق استهلاكية هائلة، وعمّقت من الهاجس المادي على حساب القيم الإنسانية الأصيلة. وقد أدّى ذلك إلى ظهور أنماط جديدة من المشاعر السطحية سريعة الزوال، وإلى تراجع العمق العاطفي في العلاقات، وإلى تآكل الهوية الإنسانية المستقلة.

إنّ التحدّي الذي يواجه الإنسان المعاصر هو كيفية الاستفادة من إيجابيات التكنولوجيا من دون الوقوع في فخاخها، وكيفية الحفاظ على التواصل الإنساني الأصيل في ظلّ التحوّلات الرقمية. 

هنا يحضر السؤال الأساسي هل يستطيع الإنسان المعاصر التحكّم بمشاعره ورغباته في ظلّ هذا السيل التسويقي الذي يتعرّض له؟ وهذا يعيدنا إلى نصيحة عمر بن الخطاب: "أو كلما اشتهيت اشتريت؟"، التي تذكّرنا بأهمية الضبط الذاتي والوعي في مواجهة إغراءات الاستهلاك.

هل يستطيع الإنسان المعاصر أن يجد توازناً بين منافع التكنولوجيا ومخاطرها؟ وهل سيتمكّن من استعادة مشاعره وإنسانيته من براثن السوق الاستهلاكية؟ الإجابة عن هذه الأسئلة ستحدّد مصير العلاقات الإنسانية في العقود المقبلة.

اخترنا لك