أَثرُ الكلمة

كلّ كلمة تترك أثراً ما حتى لو قيلت على سبيل الهزار والمزاح. لتكن كلمتنا طيّبة ولنثق أنها سوف تزهر حتى لو ألقيت بوادٍ غير ذي زرع.

"إنّ من الكلام ما هو أشدّ من الحجر وأنفذ من وخز الإبر وأمرّ من الصبر وأحرّ من الجمر، وإنّ من القلوب مزارع فازرع فيها الكلمة الطيّبة، فإن لم تنبت كلّها، ينبت بعضها" (لقمان الحكيم).

***

غالباً ما نستخدم عبارات تغدو مع مرور الوقت محطَّ كلام في أحاديثنا المُتبادَلة، ومنه مثلاً "الحكي ببلاش" و"الحكي ما عليه جمرك" و"كلّه حكي"، نقولها تعبيراً عن عدم تصديقنا لما نسمع. ويغيب عنا أنّ الحكي هو الكلام، والكلام هو اللغة، واللغة هي التعبير عمّا نقول ونفعل. 

ما من كلمة تذهب هباءً، كلّ ما نقوله يتمّ تسجيله في دفتر يوميّاتنا، لا على طريقة الاستخبارات التي تحتفظ لكلّ مواطن بملفّ خاصّ تُحصي فيه أنفاسه وحركاته وكلماته، بل تنحفر في وعينا وذاكرتنا، وفي تلك المناطق المجهولة داخل النفس البشرية التي لا تزال بمثابة أرض بكر لم يتمّ اكتشافها بعد. 

ما نقوله وما نسمعه ممن هم حولنا يعكس طبيعة نظرة كلٍّ منّا للحياة ومستوى علاقته بالآخرين، وقديماً قال المثل: "قُلْ لي مَن تعاشر أقلْ لك مَن أنت". 

إذاً الحكي ليس عبثاً ولا هراء أياً كان مضمونه أو مستواه، لأنه في جميع حالاته يحيلنا إلى دلالات معيّنة، وفي هذا السياق يقول الإمام علي بن أبي طالب: "المرء مخبوء تحت لسانه". أي أنّ ما يتفوّه به الإنسان يُعبّر عنه هو أولاً حتى لو كان مدحاً أو هجاء لأحدٍ ما، وبالمعنى نفسه كنّا نردّد صغاراً حين يخدشنا أحدهم بكلمة نابية: الكلام صفة المتكلّم.

كلّ كلمة نقولها، كلّ حرف، يُحسب لنا أو علينا، لذا نلاحظ أنّ الديانات تحدّثت عن "اللوح المحفوظ" الذي تُسجَّل فيه حسناتنا وسيئاتنا وبناءً عليها يكون الثواب والعقاب.

تلك الحسنات والسيئات تبدأ أقوالاً قبل تحوّلها أفعالاً، ومن هنا جاء النهي عن الغيبة والنميمة. والمفارقة أنّ أكثر مَن انتبه لأهمية الكلام هم السحرة والمشعوذون الذين يستخدمون الأحرف والكلمات في أعمال سحرهم. ففي كلامنا الشفوي نقول إنّ فلاناً عمل "كتاباً" لفلان، أي أنه أعدَّ له سحراً ما، وسواء كانت تلك الأعمال تفعل فعلها أم لا فإنّ منطلقها هو إيمان اللاجئين إليها بمقدرة الكلمات على صناعة الأعاجيب. 

أما الرُقى التي يلجأ إليها المؤمنون فما هي إلّا تلاوة لكلمات من الكتب المقدّسة. ولافت للانتباه أنّ بعض آيات القرآن الكريم تبدأ بأحرف مثل: ألم، كهيعص، يس، وهذا إن دلَّ على شيء فعلى القوة النفَّاذة للأحرف المُكوِّنة للكلمات ولدلالاتها المتعدّدة وطبقاتها المتراكمة.

لا يستخفَّنَّ أحد بأهمية الكلمة ومقدرتها على تحقيق المستحيل. ففي الحديث الشريف أنّ الكلمة الطيّبة صدقة، أي أنك حين تقول كلمة طيّبة لأحدٍ ما تكون كمن يتصدّق عليه. فهل أجمل من أن تكون الكلمة أحساناً ومعروفاً، وأن تترك في النفس أثراً طيّباً لا يُمحى مدى الأيام؟

كم مرّة سمعنا من أهلنا يوم كنّا أطفالاً أنّ الكلمة الطيّبة لكَ وللناس جميعاً، والسيئة لكَ وحدك. صحيح أنّ الكلمات السيئة هي الأكثر انتشاراً والأسرع وصولاً من عداها خصوصاً في زمن وسائل التواصل الاجتماعي الملأى للأسف بِمَن يجعلونها ساحةَ وَغَى لتبادل السباب والشتائم والقدح والذم وهتك الأعراض والكرامات، فضلاً عن تحوّلها مرتعاً لأجهزة الاستخبارات وجيوشها الإلكترونية. صحيح أنّ كلمة السوء أسرع انتشاراً لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الكلمة الطيبة أطول عمراً وأكثر بقاء واستمراراً في الزمن، والعميق منها يتجاوز الزمان والمكان ويبقى أبد الدهر على ألسنة الناس.

لنقل الكلمة الطيبة ونمشي، لا يهمّ إن سمعنا ما يقابلها أو يعادلها، ولنثق أنها ستتفتح يوماً وتُزهر وتعطي ثمراً شهياً، لأنها تماماً كالبذرة التي نضعها في باطن الأرض لا تنبت فوراً، لكنها بعد حين تغدو شجرة وارفة الظلال كريمة الغلال. 

ولئن كانت الكلمة الطيبة صدقة كما في الحديث الشريف. فإنّ مفعولها لا يقتصر على متلقّيها بل يطاول صاحبها أيضاً. ثمّة ما نسمِّيه فرح العطاء الذي يسعد مُقدِّمه قبل إسعاد متلقّيه وأحياناً أضعاف متلقّيه. 

أذكر أن الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي وفّر فرصة التعليم العالي لآلاف الشباب اللبناني، كان لا يحبّ سماع كلمات الشكر والإطراء ممّن ساهم في تعليمهم خشية إشعارهم بشيء من المنَّة أو الجميل، لكنه في الوقت عينه يقول إنّ أكثر ما يُفرحه هي نظرات السعادة في أعين أولئك الذين كان عوناً لهم في إكمال دراستهم أو توفير فرص العمل لهم.

لنؤمن بالكلمات وبتأثيرها السحري والعميق على قائلها ومتلقّيها في آن، ولا نقّللنَّ من أهميتها أبداً، ولئن كان هذا حال الكلمات الشفوية، فما بالنا بما هو مكتوب ويمكن الرجوع إليه كلَّ حين، ساعتها تغدو الكلمة طوق نجاة أو خنجر غدر، ولنا أن نختار ماذا نريد لكلماتنا أن تكون. 

كاتب هذه الأسطر ينحاز للأولى ويفرح كثيراً حين يكون لكلمته أثر إيجابي ولو بمثقال ذرة، بل يدينُ باستمراره على قيد العمل والكتابة لتلك الكلمات التي قرأها مُذ كان طفلاً في كتب كثيرة، أو التي قالها أناس طيبون مدارَ عمرٍ كامل من كلام لم يذهب هباءً ولم يَكُ أبداً مجرّد حكي. فالحكي ليس مجانياً أياً كان شكله ومحتواه. ما من كلمة تمرّ مرور الكرام، كلّ كلمة تترك أثراً ما حتى لو قيلت على سبيل الهزار والمزاح. لتكن كلمتنا طيّبة ولنثق أنها سوف تزهر حتى لو ألقيت بوادٍ غير ذي زرع.