أمي التي لا تعرفني.. أمي التي لا أعرفها!
أمضيتً طفولة شاقة أحب أمي، التي لا أعرفها ولا تعرفني، وأسأل روحي: كيف يكون حب الأمهات؟ كيف يكون دفء الأمهات؟
-
عن الانترنت
"أنا ابنِكْ ... يا أمي
أنا صبر الـمَواني على الفراقْ
أنا شُوقْ السُفُنْ... تحضُنْ مَواني
أنا القصايدْ.. والأغاني
لما تقولْ لِيكِي: يا أمي"
**
كلما اختمرتُ في خابية العمر، وتعتّقتُ، أزداد إيماناً جميلاً بدفء قلبك وصفاء روحك، يا أبي.
كنت تحبني، على طريقتك، وحتى مع بعض قسوتك، مع بعض ملاحظاتك، مع بعض تلميحاتك، لكن، من دون حساب، من دون حسبان: مَن ربح، ومن خسر، ومِن دون تعقيدات الـــ audit و"البيزنس"، وحسابات معقّدة، ينشغل بها من يدّعون الحب في زمن الحب "الفالصو" اليوم: ماذا آخذ من جيبك إذا أعطيتك شيئاً من قلبي؟
أنتَ كنت صنفاً آخر من المحبين، وقلبك كان مصنعاً آخر للحب. والمشاعرُ الصافية والنابضة في روحك، وتسيل نظرات حنونة من زيتون عينيك، كانت حباً من صنف آخر: حباً من النوع الذي غناه زياد الرحباني: "حب بلا ولا شي"؛ حباً نابعاً من الحب، وليس من شيء آخر غير الحب؛ حباً يشبه الأبوّة الحقيقية: حباً لا يستثمر الأب فيه ابنَه كما يستثمر تاجر مالاً في بنك تجاري، لأن الأبوّة هكذا، لا يتقاعد فيها الإنسان، ولا ينتظر راتباً في مقابل واجبه. الأبوّة ليست وظيفة حكومية يأخذ فيها الأب تعويضَ أبوّة، وإجازات أسبوعية، وعطلة سنوية، وراتبَ ما بعد التقاعد. الأبوّة هي شيء يشبه حباً بلا انتظار أي شيء.
أنت، يا أبي، لم تتركنا أبداً لحظةً من دون دفء أبوّتك. كنت لنا دفئاً، وُسعُه وُسعُ السماوات والأرض، وحناناً لذيذاً كالتين والزيتون، زيتون عينيك، وأماناً وُسعه وُسع الشتاءات الطويلة، التي تعرفها سماء بعلبك وسهل إيعات، ووُسعُ غرف بيتنا الإيعاتي الفسيحة، ووُسعُ مصطبة الدار، التي كنتَ تشرب فيها قهوتك، وتبثّ إلى الله وحده شكواك ونجواك.
وحتى في أيام إيعات القارسة والباردة، وفي أيام ضِيقك، وأيام مرضك، كان وجودك يمنح بيتنا الإيعاتي دفئاً لذيذاً. وها أنتَ ما زلتَ الدفء الذي تلوذ إليه روحي. أما أمّي فلم تكن موجودة بيننا. أَلَمْ أفتقدْها؟ بلى، يا أبي. افتقدتُها كثيراً. لم أكن أخبرك، لكني كنت أفتقدها. وكنت أكثر منذ ذلك: كنت أشتاق إليها أكثر. هل يشتاق أحد إلى إنسان لا يعرفه، لم يلمحه، لا يعرف لون عينيه، لم يشمّ رائحة شعره، لم يلمح لحظات ابتسامه ونوبات غضبه، لم يسمع وقع خطوه؟ أنا اشتقتُ، يا أبي.
يُقال إن خطوات الأم تشبه الموسيقى، لكني لا أعرف، يا أبي، كيف كانت خطوات أمي. أيّ نوع من الموسيقى كانت. لكن غيابها، الذي لا أستطيع أن أبرّره اليوم، بعد أن صرتُ أباً، كان قصاصاً كنار جهنم التي يُوعَد بالاصطلاء بها المذنبون. هل يشتاق الإنسان إلى من يعذّبه؟ إلى من يقاصص طفولته؟ أنا اشتقت، يا أبي. اشتقت إلى أمي، التي لم أعرفها، ولم ألمحها، ولم أسمع طوال طفولتي صوتها، ولم تسمع هي صوتي، ولا تعرف أين أنام، وكيف أنام. لا تعرف أيّ الأكلات أحب. أي الألوان يغويني. لم تكوِ لي قميصاً. لم تشترِ لي كنزة. لم تسرّح لي شعري الطفولي الأسود الأجعد، مرة واحدة. لم تشمّني مرة واحدة، حتى لا تعرف يوم ميلادي، ولم تحفظ رائحة طفولتي.
يقال إن الأمهات يحفظن رائحة أطفالهن. أنا أشتاق إلى أمي، التي لم تحفظ رائحة طفولتي؛ لم تعرف شيئاً عن طفولتي، ولم يمرّ طيفها في عينَي طفولتي العسليتين. لم تنده باسمي، في كل صباحات طفولتي، صباحاً واحداً، كي لا أتأخر على موعد مدرستي؛ لم تلفّ لي، كما نسمّي الساندويشة في لغتنا الإيعاتية، "طَبّوقة" لبنة صباحاً، لتكون زوادتي المدرسية؛ لم تسهر عند رأسي لـمّا أمرض؛ لم تلمح ابتسامة ثغري لـمّا أرى أحلاماً ملائكية ووردية، ولم تلمح عبوسي وتجهُّم وجهي لـمّـا تمر في مناماتي كوابيس مخيفة.
أنا اشتقت، يا أبي، إلى أمي، التي لم تفعل كل هذا، وسامحت أمي التي لم تفعل كل هذا. هل أسمّي هذا غباءً، يا أبي؟ فليكُنْ غباءً. أصلاً، جزء من تركيبة الحب هو الغباء. غباء أن تحب من دون أن تنتظر شيئاً؛ من دون أن تنتظر مقابلاً.
وها أنا أمضيتُ طفولة شاقّة أحب أمي التي لا أعرفها ولا تعرفني، وأسأل روحي: كيف يكون حب الأمهات؟ كيف يكون دفء الأمهات؟