الإرادة والمصير في جهانكشاي لزياد مبارك

لقد استطاع الروائي السوداني زياد مبارك في روايته جهانكشاي أن يجعل من السيل المغولي الكاسح، تياراً حيّاً بالخيال، محرّكاً لناعورة السرد لديه، بحيث استلّ القارئ من سطوة التاريخ، وأولجه في جماليات صراع الإرادة والمصائر.

  • الإرادة والمصير في
    الإرادة والمصير في "جهانكشاي" لزياد مبارك

يقول تشيخوف: "إذا علّقتَ مسدساً على الحائط، فينبغي استخدامه، وإلّا فلا تضعه هناك". هذه المقولة تنطبق كثيراً على رواية: (جهانكشاي، صاحب الديوان والحشّاش، لزياد مبارك الصادرة عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان لعام 2025 والتي وصلت إلى قائمة الــ 18 في جائزة كتارا لعام 2024). لم يكن المسدّس الذي ذكره تشيخوف إلّا الشاب جوتيار الذي قدّرت له حتمية التاريخ مصيراً صارعه بعنفوان الإرادة، فكما ابتدأت حكايته من حقول الحشائش في جبال الديلم قرب بحر قزوين، تعود به حدثان الأيام إلى تلك الحقول ليجمع الأعشاب والأزهار الطبّية، لكن كصوت صارخ في البرية لعلّ هناك من يسمع ويعتبر. 

أقلام وخطوط

تدور عجلة أحداث الرواية في زمن الإمبراطورية المغولية، التي امتدّت على مساحة تزيد بكثير على مساحة الإمبراطورية الرومانية في عزّ ازدهارها. لقد غيّر الغزو المغولي خارطة العالم القديم، فانهارت عواصم وولدت أخرى واندثرت الدولة العباسية إلى غير رجعة. أمّا بغداد وخليفتها المستعصم بالله، فقد استبيحا وقتلا وصبغت الأحبار والدماء مياه نهري دجلة والفرات، اللذين سيُكتب بهما تاريخ آخر على يد (علاء الدين عطا ملك الجويني) تناقض كتابه (جهانكشاي/ فاتح العالم) الذي أرّخ فيه للحقبة المغولية في بلاد فارس إلى جانب دور الإسماعيليين (الحشّاشين) في ذلك. 

يُقرع في فجر أحد الأيام باب أبي عمر الشامي؛ ذلك التاجر الذي فرّ إلى بغداد حاملاً حفيدته الوحيدة ليلى على ظهره، بعدما استبيحت دمشق هي الأخرى من قبل المغول. وكان سابقاً قد فُجع بمقتل ابنه عمر على يد أحد الحشّاشين لأنّه كان يتآمر مع المغول والدولة البيزنطية عليهم. يُقرع بابه فيجد خادمة أرسلها (الظافر بدين الله مُستوفي الديوان البغدادي) تحمل صندوقاً، لم يخطر في باله حينها، بأنّ محتواه سيكشف ماضياً حاول أن يسدل الستار عليه، لربما يدفن أحزانه في طيّاته. والأغرب من ذلك أنّ ذلك المُستوفي الذي ترتعد فرائص بغداد منه، يخاطبه باسم (سيدي) في تلك الرسائل التي احتواها الصندوق، فما وراء تلك الأطراس التي كتبت بقلم المصير والإرادة؟

تسوق الرياح قطعان العشب والزهور في سهول جبال الديلم، بينما حسن الصامت عن الكلام؛ ذلك الغريب الذي أنقذته عائلة فيروز من الهلاك، ينتقي أجود زهور وأوراق تلك السهول، ويحملها مع فيروز إلى سوق العطّارين لبيعها. وبما أنّ دوام الحال من المحال تتواتر الأخبار عن قدوم المغول بقيادة هولاكو، ليستأصل شأفة الحشّاشين ويدمّر قلعتهم العظمى آلموت. ولأنّ فيروز شهد في طفولته ماذا فعلت جحافل جنكيز خان من تدمير وقتل، هلعت نفسه، فنزح هو وعائلته وحسن إلى بغداد، لربما تنقذهم عاصمة الخلافة من قضاء المغول. 

يقطع جوتيار الجبال والسهول، مرسلاً من أحد قادة الحشاشين إلى دمشق ليقطع رأس (البرنس) ذلك البيزنطي الذي يتآمر عليهم. لم يخطئ جوتيار هدفه وعاد برأس البرنس بعدما قتل ابن أبي عمر الشامي وزوجته، لكن يا لبئس المصائر، لقد رأته ليلى ابنة عمر، الطفلة الصغيرة، فأصبح صوت بكائها منبت ضميره الذي أذاقه الويلات، حتى أنّه تاه عن هدفه، بتسليم رأس البرنس لسيده، ليسقط صريع ضميره في حقول جبال الديلم، ليجده فيروز وينقذه من الموت ويسمّيه حسناً.

يتسلّق علاء الدين عطا ملك سليل عائلة الجويني التي عملت في دواوين عدّة ممالك وحكّام، وأخيراً في إمبراطورية المغول، جبلاً إلى قلعة آلموت، وكلّه أمل أن يجد المخطوط الذي خطّه حسن الصباح بيده كسيرة عن حياته. لكن في قلب قلعة آلموت، وبينما الجنود المغول يسرقون وينهبون ويدمّرون، كان علاء الدين ينتقي الكتب المهمّة التي يريد أن يحتفظ بها، آمراً الجنود أن يتلفوا الباقي، وما إن استقل بنفسه بمكتبة القلعة ممنياً النفس أن يجد مخطوط حسن الصباح، حتى تمتد إليه يدٌ تحمل خنجراً وتخطف من بين يديه أمنيته، وتتركه حائراً أمام عينين كعيني صقر، يربكه سؤال، ستمرّ سنوات قبل أن يجد إجابة عنه: كيف استطاع هذا الحشّاش أن يتجاوز الجنود والحرس ويختلس منه أعظم أمانيه، بأن يستكمل كتابه جهانكشاي بسيرة حسن الصباح. لقد خسر علاء الدين كتاب حسن الصباح ولم يبقَ له إلّا أن يكتب كتاب (جهانكشاي) فقط! 

التآلف والتضاد

تفتق أطراس الظاهر بدين الله، قصة ذلك الفتى الحشّاش، كأنّها ديالوغ نشب بين الفتى وضميره، تارة يقصّ كيف انتخبه أحد قادة الحشاشين من براثن الموت والجثث بعدما نُحرت أمه على أيدي جنوده. وتارة أخرى ينتصب ضميره كالمدّعي العامّ يقدّم مرافعة لا يشقّ لها غبار، كي يقنع الأقدار، بأن تصبّ على ذاته أشدّ العقوبات، حتى وهو يكتب اعترافاته بالرسائل التي أرسلها لأبي عمر الشامي، فصوت ليلى الصغيرة يصمّ أذنيه ويمزّق رجاءه بالغفران من ولي الدم. هكذا امتهن حسن الصمت، وجاء إلى بغداد مع عائلة فيروز هرباً من المغول، لتقوده صنائع الأيام إلى علاقة مع علاء الدين صاحب ديوان بغداد الذي ولّاه هولاكو أمرها، ليرى بأمّ عينيه كيف هدمت بغداد حجراً حجراً، وكيف قتل الناس كأنّهم ماشية، وكيف أفرغت خزائن العلم في نهري دجلة والفرات، ونهب الغازي خيرات البلاد حتى أصبحت بغداد مقبرة كبيرة. لم يكن أمام حسن/ جوتيار إلّا أن يهرب أكثر في تفانيه في خدمة عائلة فيروز إلى أن تلحظه عيون علاء الدين، فيتذكّر تلك العينين الصقريتين في قلعة آلموت، فيأمر جنوده باعتقاله ووضعه في السجن إلى أن صرخ جوتيار بأنّه سيقصّ كلّ شيء. وهنا تبدأ علاقة أبوية من قلب الثأر والانتقام والتضاد بين جوتيار وعلاء الدين صاحب الديوان، لتنمو وتعكس ظلالها على مسيرة حياتهما. فعلاء الدين بعدما رأى ماذا فعل المغول ببغداد صحا ضميره من عبودية التزلّف إلى السلطة، إضافة إلى ما قصّه عليه جوتيار من سيرة القتل وطلب الغفران التي عاشها، فقرّر أن يكتب من جديدة سيرة (جهانكشاي/    فاتح العالم) فألقى بالنسخة السابقة من كتابه في النار، وشرع بكتابة نسخة جديدة لا تمجد هذا الفاتح، بل تفضح عنفه وجنونه وتوقه لسفك الدماء، فلقد أراد كتابة تاريخ مضاد لجهانكشاي كتابه القديم. أصبح جوتيار بأمر صاحب الديوان؛ الظاهر بدين الله مُستوفي الديوان البغدادي القائم على أموال تجار بغداد يأخذ منهم ما يعمّر البلاد ويعيد لبغداد ألقها. لقد استقرّ الحال بجوتيار فقرّر أن يكتب اعترافاته ويرسلها لأبي عمر الشامي، بعدما رأى الأقدار تبتسم له، ولربما تكتمل حياته بالغفران. 

كان لقصة جوتيار أن تنتهي، كما يليق بالغفران بعد الاعتراف الصادق، إلّا أنّ ألم أبي عمر الشامي على ابنه الذي قتله جوتيار كان أكبر. هكذا تصل أطراس الظاهر بدين الله/ جوتيار/ حسن، إلى بلاط المغول، فتكون القشّة التي قصمت ظهر بعير عائلة الجويني، لتكتب نهايتها، بعد أن كانت لهم صولة وجولة في دواوين الملوك والحكّام، لكن نجا علاء الدين ليكمل كتابه الذي لم يصل إلينا، وظلّ كتابه السابق جهانكشاي يمجّد سيرة المغول، يا للمفارقة!

صراع الخيال والتاريخ 

تطرح الرواية علاقة التاريخ بالخيال، وهي مدرِكة أنّ التاريخ بعدما يُكتب، يجب ما عداه، لكن لا بدّ من نافذة أخرى، لنقرأ حيوات شخصيات مُهرت بصفات معيّنة في التاريخ الرسمي المكتوب، كشخصية المؤرِّخ علاء الدين في رواية مبارك، فلا بدّ أن نتساءل بعد الاطلاع عليها: ألم يحاججه ضميره مرّة واحدة، على الأقل، في صدق ما يكتب عن المنتصر، بسؤاله: وماذا عن الضحايا؟ لربما القراءة الجديدة بعين الخيال تجعل علاء الدين مثل جوتيار المتخيَّل في الرواية؛ ذلك الذي استفاق من غيبوبة الحشيش، وحاول أن يجلو صدأ قلبه بالاعتراف أمام عيني أبي عمر الشامي، لربما ينال الغفران. ومن هذا المنطلق التخييلي في إعادة قراءة التاريخ نجد شخصية العيّار البغدادي في الرواية الموصوم بالدهاء والمكر، والذي استخدمه صاحب شرطة بغداد الذي كان في صراع مع صاحب الديوان علاء الدين، ليعرف ما ظهر وبطن من حياته، لعلّه يستطيع أن ينصب له فخاً في بلاط المغول. ومن ثم أرسله ليقتفي أثر الظاهر بدين الله بعد المحنة القاتلة التي نزلت بآل الجويني، وعندما أدرك العيّار أنّ صاحب شرطة بغداد ليس إلّا مغولياً آخر، هرب من وجهه إلى حيث فرّ جوتيار، إلى منبع سردية هذه الرواية بين حقول العشب والنباتات الطبية التي تزدهر في سهول جبال الديلم صائحاً: "أنا قادم يا جوتيار، أنا قادم".

لكن لماذا هذه النهاية؟ لم يكن جوتيار إلّا فتى بريئاً وقع ضحية عنف الحشّاشين، فقادته مصائره إلى أن يصبح حسن الصامت عن الكلام، إلى القائم على مال بغداد وتاجرها الكبير. كذلك العيّار الذي تدمّرت حياته بعد مجيء المغول، فكلاهما من الطبقة المغفّلة في سياق التاريخ، وهم الضحايا الذين لم تذرف عليهم نقطة حبر من قبل كتبة التاريخ. إنّ التقاءهما يعني أنّ هناك حركة ما ستحدث في سكون التاريخ، وسيسعفنا الخيال في تصوّرها، حيث سيسعيان خلف علاء الدين في مخبئه عن أعين المغول، حيث يكتب فيه التاريخ المضاد لجهانكشاي، ومن ثم يعملان على نشر كتابه الجديد. ولنتخيّل كتابه الآن، مجرّد مخطوط منسيّ في إحدى المكتبات في بغداد أو دمشق، حيث سيأتي أحد المحقّقين ويخرجه من سكون الغبار على رفوف معتمة، إلى الحركة إلى نور الحبر، لنقرأ من جديد تاريخاً آخر لفاتح العالم، مخالفاً لما انتشر وشاع عنه. وهنا يكمن سرّ الخيال بقدرته على إعادة كتابة التاريخ، مثلما تغيّر الإرادة المصائر، حتى لو كانت النهاية مأساوية. لقد فقأ أوديب عينيه عندما قرّر مجابهة الأقدار، لكن بصيرته أضاءت لنا الكثير عن دواخل أنفسنا.

وفي نهاية هذا المقال، نقول: لقد استطاع الروائي السوداني زياد مبارك في روايته جهانكشاي أن يجعل من السيل المغولي الكاسح، تياراً حيّاً بالخيال، محرّكاً لناعورة السرد لديه، بحيث استلّ القارئ من سطوة التاريخ، وأولجه في جماليات صراع الإرادة والمصائر عبر الخيال مطلقاً سهم جوتيار، الحشّاش الأخير، على مصداقيّة التاريخ. 

اخترنا لك