الدادائية واستراتيجية الهدم بلا بناء

كشفت الدادائية كيف أن النظام المعرفي السائد لم يكن سوى غطاء لعجز جوهري، وكيف أن الخطاب العقلاني لم يكن سوى قناع لممارسات العنف المنظّم.

  • شكلت الدادائية انقطاعاً معرفياً حاداً مع نظام الخطاب الفني السائد
    شكلت الدادائية انقطاعاً معرفياً حاداً مع نظام الخطاب الفني السائد

في لحظة تاريخية فارقة، حين كانت أوروبا تغرق في دماء حربها الكبرى، تشكَّل خطاب فنّي جديد في زوايا مقهى متواضع في زيورخ. فكانت تلك المدرسة التي حملَت اسماً مثيراً للغرابة، هو "الدادائية"، التي لم يتّفق النقاد حتى يومنا هذا على معناها الدلالي الحاسم.

لم تكن الدادائية مجرّد حركة فنية عابرة، بل شكَّلَت انقلاباً معرفياً على منظومة القوّة الثقافية السائدة. فحين أعلن تريستان تزارا، ذلك المنفي الروماني، ولادة هذا التمرّد الفنّي، لم يكن يؤسّس لمدرسة بصريّة فلسفيّة جديدة فحسب، بل كان يقوّض أركان السلطة المعرفية التي هيمنت على الوعي الأوروبي لقرون. نحن هنا في صدد تغيير صارخ في مفاهيم جمالية عمرها آلاف السنين.

انقطاع معرفي

في قراءة حفريّة لهذه اللحظة، نجد أن الدادائية شكلت انقطاعاً معرفياً حاداً مع نظام الخطاب الفني السائد، الذي كان يتجسّد في مدارس مثل الكلاسيكية، والرومانسية، والقوطية، والفيكتورية، وصولاً حتى الانطباعية التي أحدثت نقلة تقنيّة بنسبة معيّنة، مهّدَت للوحشية. فالعقلانية الأوروبية، التي طالما تباهت بقدرتها على تنظيم العالم وفهمه، وجدت نفسها عاجزة أمام جنون الحرب وعبثيتها. 

في هذه اللحظة بالذات، ظهرت الدادائية كممارسة خطابية مضادّة، تسخر من ادّعاءات العقل وتكشف عن تهافت منطقه. فكيف للوعي الصارخ مطلع القرن الماضي، أن ينحدر هذا الانحدار السريع نحو أهوال الحروب والغزو وإلغاء الخرائط ونسف الثقافات؟

شبكة العلاقات

كانت تلك المدرسة كشفاً عن أزمة عميقة في بنية المعرفة الغربية. فحين قدم دوشامب مبولته الشهيرة كعمل فني، لم يكن يسخر من الفنّ فحسب، بل كان يفكك العلاقة بين السلطة والمعرفة والجمال. كان يقول: "إن ما يحدّد ما هو فني ليس القيمة الجوهرية للعمل، بل شبكة علاقات القوّة التي تمنح الشرعية لبعض الأعمال وتنزعها عن أخرى"، كاشفاً وجهاً جديداً من موبقات الأوساط الثقافية، حيث الشلليّة، والتشبيك المصلحي، على حساب الفنّ كجوهر متأجّج، حركي، يقود الوعي العام نحو الأفضل ضمن منظومة قفزات معرفيّة.

اعتباطية المعنى

في تجليات الدادائية في الشعر والمسرح والفنون التشكيلية، نرى ممارسة منهجية لتفكيك أنظمة المعنى التقليدية. فالقصيدة الدادائية، بكلماتها العشوائية وتراكيبها المفككة، لم تكن تهدف إلى خلق معنى جديد بقدر ما كانت تكشف عن اعتباطية المعنى نفسه. وفي المسرح الدادائي، تحوّل الجمهور من متلقٍ سلبي إلى مشارك في فعل التمرّد على السلطة الثقافية. بينما كانت الأعمال التشكيلية ذات أنساق صافعة للعين، وساخرة من كل قاعدة وقانون، لتكون تلك المدرسة أجرأ عمليّة هدم، لم تغلبها التكعيبيّة أو السوريالية، أو أي مدرسة أخرى.

سلطة التمرّد

لكن الدادائية، في لحظة تاريخية لاحقة، واجهت مأزقاً وجودياً: كيف يمكن للتمرّد أن يستمرّ حين يصبح هو نفسه شكلاً من أشكال السلطة؟ هذا المأزق هو ما دفع الحركة نحو خفوتها السريع. فالصدمة التي أحدثتها في البداية تحوّلت تدريجياً إلى حالة متوقّعة، والفوضى التي نادت بها أصبحت نظاماً جديداً، غير قادر على الابتكار، ذلك أن منظّري الدادائية تعمّدوا عدم الإكثار من الفلسفة والتفسير، كونها أدوات وأنساقاً سابقة، ومنبوذة، فكيف لفعل إلغائي ثوري أن يعتمد مناهج تمرّد عليها، وهاجمها، وسخِر من رموزها المكرَّسين في الأوساط الثقافية؟

تحويل العبث إلى منهج

من رحم هذا المأزق ولدت السوريالية، التي يمكن فهمها كمحاولة لتنظيم الفوضى الدادائية وتحويلها إلى منهج. لكن هذا التحوّل لم يكن مجرّد تطوّر طبيعي، بل كان إعادة تشكيل لعلاقات القوة داخل الحقل الفني. فالسوريالية، بقيادة الفرنسي، أندريه بروتون، أعادت تأطير التمرّد الدادائي ضمن خطاب نظري متماسك، محوّلة العبث إلى منهج، والفوضى إلى نظام، بالاستناد إلى نظرية سيغموند فرويد حول اللاوعي ومكبوتاته، لتكون السوريالية إطاراً مبنياً على تحرير مكبوتات العقل الباطن من خلال الكتابة الآلية، واللوحات الشبيهة بالأحلام وتداعياتها المتناقضة المحمَّلة بالرموز التي يسعى العقل اللاواعي إلى تمريرها كرسائل سرّية.

ردّة فعل

لنتأمل المشهد الباريسي آنذاك: السيارات تملأ الشوارع لأول مرّة في التاريخ، الكهرباء تغيّر إيقاع الحياة اليومية، الطائرات تخترق السماء، والراديو يبث أصواتاً من عوالم بعيدة. وفي الوقت نفسه، جثث الجنود تملأ ساحات المعارك، والغازات السامّة تخنق الأرواح، والدبابات تدكّ حصون الحضارة. كان هذا التناقض الصارخ بين وعود التقدّم وواقع الدمار يستدعي ردّة فعل عنيفة تتناسب مع حجم الصدمة. هنا تكمن عبقرية الدادائية، فبدلاً من محاولة ترميم الوعي المتصدّع، اختارت أن تعمّق الشرخ بشكل أمعن في عملية الهدم، بحيث تجاوز الإصلاح الذي سيتجلّى كعلاج تخديري وقتي، مؤخّر للزمن الثوري "الحتمي". 

أدوات الفتك

تبلورت الدادائية كلحظة انكشاف عميق لتصدّعات الحداثة الأوروبية. فما بدا كممارسات يومية اعتيادية فضَحَ نفسه كآلية تمويه وتغطية على إخفاقات المشروع الحضاري الغربي. إن التطور التقني المتسارع الذي ادّعى حمل مشعل التنوير، لم يكن سوى مسار متواطئ مع صناعة الموت. والعقل الذي رفع شعار التحرّر، تحوّل إلى أداة لتنظيم وترشيد القتل الجماعي. وقد حصل هذا بالتعاون مع نخبة من المثقفين الذين بدوا كأدوات في أيدي السلطات، فراحوا يبرّرون فعل الغزو، مشعلين العظمة التاريخية في كل بلد، بحيث يجتذبون الشبّان ليكونوا وقوداً في الأتون الحربي.

لقد كشفت الدادائية كيف أن النظام المعرفي السائد لم يكن سوى غطاء لعجز جوهري، وكيف أن الخطاب العقلاني لم يكن سوى قناع لممارسات العنف المنظّم، وقد تجلَّت معالمه في أوقات سابقة ولاحقة في الدول المستَعمَرة في أفريقيا وآسيا، لتكون الحضارة مشهداً قشريّاً لحالات نهب لثروات تلك البلاد، كما استعباد أبنائها.
لا، لم تكن الدادائية مجرّد حركة فنيّة، بل ظهرت كلحظة تعرية لبُنية كاملة من التناقضات التي أنتجها المشروع الحداثي. أو اصطدم بها، فكابر دون تشخيصها الصحيح، وبذلك بدا المثقّف كشاهد ساذج في مقابل دوره المفترض ككاشف ورؤيوي.

ضرورة الصفعة

في هذا السياق، كانت الصدمة الدادائية ضرورة تاريخية. فالمجتمع الباريسي، وبالتبعية المجتمع الغربي ككل، كان بحاجة إلى من يلكمه بقوّة ليستيقظ من غيبوبته الحضارية. وهذا ما فعلته الدادائية بالضبط: صفعت الذوق العام، وقوّضت المسلَّمات الجمالية، وسخرت من القيم الراسخة، وفضحت زيف الادّعاءات الثقافية. ولم يكن ذلك كخطاب لغوي، فكري، فنّي مضاد، بل تمظهر المشهد كأن هناك سكّيراً دخل منزله مترنّحاً فحطّم التماثيل الموزّعة في زوايا المكان. أجل، في الدادائية شيء من ترنّح "عبثي" لامبال، ولو وقفت خلف تلك المدرسة مجموعة من المثقفين الذين يمتلكون وعياً متقدّماً. 

صناعة الشكّ

انكشفت الدادائية كانقطاع معرفي مع الماضي، ما أتاح مساحات جديدة لم تكن متخيَّلة من قبل، بل لم تكن متوقّعة حتى من قبل "ثوّارها". فعبر تفكيكها المنظّم لكل ما استقرّ في الوعي الجمعي كثوابت وبديهيات، بصرية وفكرية، وأدبية، فتحت الدادائية مجالات مغايرة للتعبير والفهم، من دون أن يتمثّل الأمر كنصوص وخطابات، وهو دور لعبه النقاد في تلك المرحلة، ولم يكن الأمر ليأخذ أبعاده الجدّيّة لولا المواكَبة الدؤوبة من قبل الصحف، والمنابر، والصالونات (تحديداً البرجوازيّة منها). حين نتتبع سياقات التحوُّل في الوعي والممارسة خلال القرن العشرين، نجد أن جذورها تمتدّ إلى تلك اللحظة الفارقة التي تجرَّأت على تعرية كل اليقينيات.

تمظهرات الدادا

تحضر الدادائية اليوم في راهننا، كأثر ضبابي غير مباشر، فسؤالها المؤجّل دوماً عن إمكانية الفنّ كتقويض لمركزية المعنى وتفكيك لثنائيات القوّة/المعرفة، يظل يؤرق النسق الفني المعاصر. هكذا تحضر متوارية في مسام كل عمل أو مشروع فنّي تبِعها، فانقلابات ذلك الزمن المتأجّج ستبقى نقطة تحوُّل مفتاحيّة لكل الأنساق والتمظهرات الإبداعيّة اللاحقة، حتى لو بدت مشاريع مناقضة للدادائية وباقي المدارس.

الدادائية إذاً، أعمق من صرخة في لحظة تاريخية منتهية، بل هي ذلك "الأثر" الذي يسكن هوامش كل عمل فني معاصر يسعى لتفكيك مركزية الخطاب المهيمن.  

اخترنا لك