السوريالية في محكمة اللاوعي.. حين خان بروتون فرويد
اليوم، بعد نحو قرن على البيان السوريالي، لا يمكن إنكار ما حققته هذه الحركة في الفن: جمالية مدهشة، صور قَلَبَت المألوف، وحضور ثقافي عابر للحدود. لكن كمدرسة نفسية، كسلاح ضد القمع الداخلي، فقد فشلت السوريالية فشلاً ذريعاً.
-
"جثة رائعة"، فالنتين هوغو، أندريه بريتون، تريستان تزارا، غريتا كنوتسون. منظر جمالي، عام 1933
في أواخر عشرينيات القرن الماضي، وبينما كانت أوروبا تلهث تحت وطأة الحرب والتمزقات النفسية، أطلّ علينا أندريه بروتون ببيانه السوريالي، كاهناً جديداً لجماعة تعتقد أن الخلاص يكمن في الحلم، وأن تحرير الصور من رقابة العقل سيفتح بوابة جديدة للوجود. بدا الأمر، في حينه، أشبه بثورة ضد النسق، ضد الرأسمالية، ضد الرموز، وضد النفس ذاتها. لكن.. أي نفس؟ أي لاوعي؟ وهل ما فعله بروتون كان فعل تحرير أم إعادة تغليف للرقابة في عباءة جمالية؟
الحلم كأداة تجميل للكوابيس
بروتون لم يبشّر بالحلم فقط، بل بعبادة الحلم. في بيانه الأول، دعا إلى إطلاق الفكر "من دون رقابة من العقل"، وإلى اعتناق اللاعقل كطريق للخلاص. لكن هنا يكمن الخداع الأنيق: حين تحوّل اللاعقل إلى أسلوب فني، فقد خاصيته الثورية. لم يعد اللاوعي تهديداً، بل مادة زخرفية.
السوريالية، إذ تلبّست لغات سيغموند فرويد، جرّدت التحليل النفسي من عدّته الجراحية. فأصبح الحلم مشهدياً، لا بنيوياً؛ أصبح اللاوعي غريباً، لا مألوفاً/مرعباً كما هو عند فرويد؛ وتحوّلت الرغبة من "قوة انقسامية تنتج الذات" (كما لدى ميشيل فوكو)، إلى ريشة ترسم الغرابة على قماش اللوحة، لا أكثر.
اللاوعي عند فرويد ليس غابةً ناعمة
فرويد، خلافاً لكل ما ظنّه بروتون، لم يقدّم اللاوعي على أنه متحف غرائبي لرموز الطفولة، بل بوصفه آلية خيانة دائمة للوعي. اللاوعي ليس ملاذاً إبداعياً، بل محكمة مظلمة للرغبات الممنوعة. إن الحلم، عند فرويد، لا يُرسم، بل يُحلَّل — لا يُحتفى به بل يُفتّش عن الجريمة الكامنة فيه.
ولذلك، حين استُضيف فرويد إلى طاولة السورياليين، لم ينبهر كما توقعوا. نظر إليهم، ثم إلى نفسه، ثم هزّ رأسه كما لو أنه يحدّق في تشويه لمشروعه. إن اللاوعي السوريالي، بالنسبة إلى فرويد، كان ابتذالاً لجراحات النفس، غمساً لها في وعاء من الألوان، بدلاً من تمزيق القشرة والنفاذ إلى العفن القابع تحتها.
الفرق بين كشف الجرح واستعراضه
كما يشير فوكو، فإن "الاعتراف" لا يعني بالضرورة التحرر. بل هو، في أغلب الأحيان، آلية ضبط. السوريالية اعترفت باللاوعي، لكنها حوّلته إلى عرض بصري، إلى لحظة اعتراف مسرحي لا تغيّر شيئاً من البنية التي أنتجته. بدلاً من فضح السلطة الكامنة في الرغبة، قامت السوريالية بترويض الرغبة، بتأطيرها، بجعلها قابلة للبيع.
أليست هذه هي السخرية القصوى؟ أن يحوّل "ثوّار الحلم" اللاوعي إلى مادة قابلة للتأطير؟ أن يصبح الممنوع مشهدياً، وبالتالي مُفرَّغاً من أي قدرة على المقاومة أو التهديد؟
محاكمة بعد 100 عام
اليوم، بعد قرن تقريباً على البيان السوريالي، لا يمكن إنكار ما حققته هذه الحركة في الفن: جمالية مدهشة، صور قَلَبَت المألوف، وحضور ثقافي عابر للحدود. لكن كمدرسة نفسية، أو كسلاح ضد القمع الداخلي، فقد فشلت السوريالية فشلاً ذريعاً.
لقد تجاهلت البنية المرضية للإنسان. تصالحت مع الرغبة بدلاً من تحليلها. تجاهلت أنّ اللاوعي ليس حديقة خلفية للعقل بل حقل ألغام يتطلب الحفر، لا التأمل فيه من خلف زجاج اللوحة.
إنه نقد لا ينفي إبداع السوريالية، لكنه يرفض ادعاءها بأنها حرّرت الإنسان من العقل. فهي بالكاد حرّرته من واقعه، لتضعه في كابوس جديد: كابوس يحلم فيه، من دون أن يستيقظ.