الشِّعر مرآة الإنسان
الشِّعر ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة لحفظ الذاكرة الجمعية وبناء الهوية. حتى في المجتمعات التي تعاني من التهميش، يظل الشِّعر سلاحاً لإثبات الوجود.
-
بابلو نيرودا (1904 - 1973)
في غمرة ما يحيط بنا من فظائع وأهوال، وفيما ترتد بعض مجتمعاتنا العربية إلى مرحلة بدائية من التطرف والتوحّش، وتطغى على الكوكب بألسنة زعمائه وقادته لغة المصالح والمكاسب بعيداً من أي قيم إنسانية، يأتي "اليوم العالمي للشِّعر"، الذي أعلنته مُنظَّمة "اليونيسكو" منذ عام 1999، والذي يصادف في 21 آذار/مارس من كل عام، فيتجدَّد الحديث عن أهمية هذا الفن الإنساني العريق، ودوره في صياغة الهُوية الثقافية، وترسيم مشاعر الفرد والجماعة.
الشّعر ليس مجرد كلماتٍ موزونة ومُقفَّاة أو صوراً حرّة طليقة، بل هو لغة الروح، وجسرٌ بين الواقع والمخيال، وسِفرٌ مقدَّسٌ يحمل أسرار الحب، والحزن، والحرية، والانتفاضة. وهو انطلاقاً من هذه المعاني شكل من أشكال المواجهة، ووسيلة من وسائل الرد على تلك الهمجية التي تعيدنا إليها قوى الهيمنة الاستعمارية وتيارات "بالذبح جيناكم"، بوصفه فنّاً يؤكد إنسانية الإنسانية ويسمو بها.
منذ أن نطق الإنسان بالكلمة وابتكر الحرف واللغة، كان الشِّعر وسيلته لفهم الذات والكون. ففي الحضارات القديمة، من ملحمة جلجامش إلى أشعار هوميروس، التقط الشِّعر أصوات الأسلاف ووثَّق أساطيرهم. وفي العصر الجاهلي، كان الشاعر حامي قبيلته، يُعزِّز قيمها ويدافع عنها بالقوافي. أما في العصور الحديثة، فتحوَّل الشِّعر إلى صرخة مقاومة، كما في قصائد محمود درويش التي حملت هوية شعبٍ بكامله، أو قصائد بابلو نيرودا التي صارت "مانيفستو" من أجل العدالة والكرامة. هكذا تجاوز الشِّعر كونه تعبيراً فردياً ليصير صوتاً جماعياً ينشد التغيير ويُؤرِّخ للتطلعات الإنسانية نحو الحرية والعدالة.
في عالمٍ يسوده العنف والتسارع التكنولوجي، تدار الحروب من القوى العظمى وتحتل الروبوتات مكان الإنسان، يظل الشِّعر ملاذاً للتعبير عن مكنونات النفس وترتيب الفوضى الداخلية التي تعمّ الدواخل البشرية. فالكلمات الشعرية قادرة على معالجة صخب الأفكار وتجسيد ما يُعجز اللسان عن البوح به.
الشّعر هو المرآة التي ترى فيها النفس ما لم تره في الواقع، والمفتاح الذي يُغلِق أبواب الوحدة ويُضيء شموع الأمل. لم تكن قصائد المتنبي والمعري وأبي تمام مجرد أبياتٍ جميلة، بل كانت محطاتٍ للتأمل والشفاء، تُذكِّر الإنسان بأن مشاعره ليست وحيدة وموحشة، وأن آخرين عبروا الدروب نفسها وخبروا الأحزان ذاتها.
ومن عظمة الشعر أن ما قيل قبل مئات السنين يصلح الآن، تردده الألسن والشفاه، ويغدو في كثير من الأحيان وسيلة شفاء أو علامة رجاء. إذ لا يقتصر الشِّعر على محاكاة الفرد وشؤونه وشجونه، بل هو حكاية الجماعة منذ كان عنترة ينشد والرماح نواهل. فالقصيدة تحمل في طياتها روح عصرها، تُعبِّر عن أحلام الشعوب وهُمومها. ما كانت ثورة المصريين عام 1919 إلا ورفعت شعر حافظ إبراهيم شعاراً، وما كانت نكبة فلسطين إلا وحفرت في ذاكرة القصيدة العربية.
الشِّعر، بهذا المعنى، ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة لحفظ الذاكرة الجمعية وبناء الهوية. حتى في المجتمعات التي تعاني من التهميش، يظل الشِّعر سلاحاً لإثبات الوجود، كما فعل كثير من شعراء نيجيريا الذين حوَّلوا قصائدهم إلى هتافاتٍ ضد الاستعمار.
لا يُمكن فصل أهمية الشِّعر عن بعده التربوي والتنويري. تلقّي الشِّعر في الصغر يُنمي الحس الجمالي، ويُوسع الخيال، ويُعلِّم الناشئة كيف يُعبِّرون عن أنفسهم بلغةٍ راقية. عندما يحفظ الطفل بيتاً لابن الرومي أو يقرأ قصيدةً لجبران، فإنه لا يتعلم اللغة فحسب، بل يكتشف عوالم جديدة من المشاعر والأفكار. في اليابان، ما زالت المدارس تُدرِّس الـ"هايكو" (قصائد قصيرة) لتعزيز التركيز والتأمل، بينما في الغرب، تُستخدم القصائد في تعليم الفلسفة وتحليل النفس البشرية. إن إهمال الشِّعر في المناهج التعليمية يعني حرمان الأجيال من أداةٍ جوهرية لفهم التعقيد الإنساني.
في زمن السوشيل ميديا والقصص المختزلة، يطرح البعض سؤالاً: هل ما زال للشِّعر مكانٌ في عصر "التيك توك" والذكاء الاصطناعي؟ الحقيقة أن الشِّعر لم يمت، بل تجاوز حدود الورق ليتخذ أشكالاً جديدة. فها هو يطرق أبواب المنصات الرقمية، مُستخدماً اللغة البصرية والموسيقى، كما في "الشِّعر المرئي" أو "الشِّعر التفاعلي". الشاعر الحديث ليس مجرد كاتب، بل هو فنان يجمع بين الكلمة والصورة والصوت، ليُواجه إدمان العالم على السرعة والسطحية. بل إن بعض الشعراء استخدموا الذكاء الاصطناعي ذاته لتوليد قصائد تُمزج بين التراث والحداثة، مُثبتين أن الشِّعر قادرٌ على التكيف من دون أن يفقد روحه.
نفهم الشِّعر كحلقة وصلٍ بين المنطق والعاطفة، بين العلم والفن. فكثيرٌ من العلماء استلهموا من الشِّعر طرقاً جديدة للتفكير، مثل أينشتاين الذي رأى في الخيال الشعري أداةً لفك ألغاز الكون. حتى في علم النفس، تُستخدم القصائد في العلاج لمساعدة المرضى على فهم مشاعرهم المكبوتة.
الشِّعر هنا ليس مجرد تعبيرٍ أدبي، بل هو منهجٌ لاستكشاف الأسئلة الوجودية الكبرى: من نحن؟ ولماذا نعيش؟ وكيف نتعايش؟ إنه يُذكِّرنا بأن البشر ليسوا آلاتٍ تُنتج البيانات، بل كائنات تبحث عن المعنى في كل تفصيلةٍ من الحياة.
الشِّعر ليس تراثاً ينتمي إلى الماضي، بل هو نبضٌ حيٌ يسكن كل إنسان. في "اليوم العالمي للشعر"، نُذكِّر أنفسنا بأن القصيدة هي أقصى ما يمكن أن يبلغه الإنسان من سموٍّ في التعبير. فلنقرأ الشِّعر، ولنكتبه، ولنُعلِّمه لأطفالنا؛ به نحفظ جمال اللغة، ونُقاوم جفاف العالم، ونبني جسوراً بين القلوب. وكما قال الشاعر بابلو نيرودا: «الشّعر هو الصمت الذي يتكلَّم، والظلام الذي يُنير». فليبقَ الشّعر جزءاً من حياتنا، لأنه ببساطةٍ: مرآةُ الإنسان، ورسالةُ الإنسانية إلى الأبد.