العبودية المعاصِرة

الثقافة الاستهلاكية تزرع في الوعي فكرة أن السعادة فردية، تتحقّق عبر شراء المزيد، لا عبر بناء العلاقات أو الإسهام في المجتمع. هكذا يتكاثر "مدرّبو الحياة" و"التنمية البشرية"، وتتفكّك الأسر، وتتأكّل الروابط الاجتماعية، ويصير الجيران غرباء، والإنسان وحيداً.

  • عن الانترنت
    عن الانترنت

في زمنٍ صارت فيه الأرض سوقاً مفتوحة تُدَقُّ أبوابُها بأيدي الرأسماليين قبل أيدي الحُجَّاج، تحوَّل الإنسان من كائنٍ مقدّس يحمل روحاً وفكراً وقيمة، إلى رقم في سجل مالي، أو شريط ملوّن يُقرَأ بآلة إلكترونية. 

عالمنا المعاصر، بكلّ تعقيداته، لم يعد يحكمه الفلاسفة أو الحكماء أو حتى الساسة التقليديون، بل صار مُلكاً خالصاً لـ "أوليغارشية" جديدة، تلبس بذلات فاخرة وتحمل حقائب من جلد التماسيح، بينما تُخفي في جعبتها سموم الاستغلال والجشع، والسعي لنهب خيرات البلدان وثروات الشعوب.

لقد تحوَّلت المدينة الفاضلة، أو القرية العالمية بلغة اليوم، التي حلم بها الفلاسفة والمفكّرون إلى سوقٍ عالميةٍ بلا ضمير. رجال الأعمال والشركات العابرة للقارات يمسكون بخيوط اللعبة، يرفعون شعارات برّاقة عن التقدّم والرفاهية، لكنهم يدفنون تحت أنقاضها كرامة الإنسان وحقوقه. فـ "الزبون" ـــــ الاسم الجديد للإنسان ـــــ لم يعد يُقاس بوعيه أو إنسانيته، بل برصيده البنكي وقدرته على الشراء. أما القيم الروحية والثقافية، فقد صارت سلعاً مستهلكة تُعرض في مزادات الوهم، أو تُغلّف بأغلفةٍ تسويقيةٍ لترويج البضائع.  

هذه العولمة المفصّلة على مقاس الأقوياء ليست مجرّد نظامٍ اقتصادي، بل هي آلةٌ ثقافيةٌ تطحن التنوّع الإنساني لتصنع منه مسحوقاً متجانساً. اللغات تموت، والأزياء التقليدية تُختزل في أزياء استعراضية، والموسيقى تُسرق ألحانها لتصبح خلفيّة لإعلانات المشروبات الغازية. حتى الأحلام الفردية لم تسلم؛ فالشباب اليوم يحلمون بلغةٍ واحدة: لغة النجاح المادي، المُقاس بالسيارات الفارهة والمنازل المُعلَن عنها في مجلات الرفاهية، أو الهجرة إلى بلدان "العالم الأول" سعياً وراء الحلم/الوهم الأميركي أو ما يعادله.

لا يكتفي أباطرة المال بتحويل الإنسان إلى آلة استهلاك، بل يُشعلون نيران الحروب في البلدان الفقيرة أو الضعيفة كي تظلَّ عجلة الاقتصاد تدور. فالحرب، في حساباتهم الباردة، استثمار مُربح: بيع الأسلحة، واستنزاف موارد الشعوب، واختراع أعداء وهميين لتحقيق مكاسب واقعية. وها هم يلعبون بورقةِ الصراعات العرقية والدينية، يُذكّون نارَها في شرق الأرض وغربها، ليضمنوا بقاء الدول النامية في دائرة التبعية، ولتظلَّ شعوبها غارقة في الفوضى، عاجزة عن المطالبة بحقوقها أو بناء حضارتها.  

أوضح مثال على ذلك جريمة الإبادة المرتكبة بحقّ الشعب الفلسطيني في غزة على أيدي الاحتلال الإسرائيلي، والحلول التهجيرية التي يقترحها دونالد ترامب الذي يحاول انطلاقاً من موقعه وفهمه الأوليغارشي، تحويل الصراع مع المحتل إلى خلاف عقاري بين شريكين أو جارين(!) فيما المقتلة الفلسطينية مستمرة على مرأى العالم أجمع.

ولكنّ الحرب ليست فقط إزهاق الأرواح وسفك الدماء، بل هي أيضاً حرب بياناتٍ ومعلومات. ففي عصر التكنولوجيا، تُسرق خصوصياتُ الأفراد لتصبح سلعةً تُباع في السوق السوداء. الخوارزميات تراقب تحرّكاتنا، وتتحكّمُ باختياراتنا، وتصنعُ لنا واقعاً افتراضياً نعتقد أنه حُرّ، بينما هو مُصمّمٌ ليبقينا مدمنين على الاستهلاك. حتى الثوراتُ الشعبيةُ لم تعد بمنأى عن التلاعب؛ فمنصات التواصل الاجتماعي، التي يفترض أنها ساحةُ الحُرية، صارت أدواتٍ لتصدير الأزمات أو إخمادها بحسب مصالح مالكيها. وخير دليل كيف تتمّ برمجة تلك الخوارزميات على حجب كلّ الحقائق المتصلة بفلسطين والصراع مع المحتل.

وفي خضمّ هذا المسرح المأساوي، تُختزل الكرامة الإنسانية في معادلةٍ ماديةٍ قاسية: فقيرٌ؟ أنت عالةٌ على النظام. غنيٌّ؟ أنت "العميل المميَّز". وهكذا يُحكم على الملايين بالعبودية الحديثة: عبودية القروض، وعبودية الوظائف المهينة، وعبودية الهرولة وراء الموضة والأسماء التجارية التي تخلع على من يشتريها وَهْمَ الانتماء إلى طبقة "النخبة".  

هذه "العبودية المعاصرة" ليست بالحديد والسلاسل، بل بوسائل أكثر دهاءً: إعلاناتٌ تُقنعك بأنّ سعادتك في منتجٍ لا تحتاجه، ونظامٌ تعليميٌ يُخرّج أجيالاً من الموظفين لا المفكّرين، وثقافةٌ تُمجّد الثراء السريع حتى لو كان عبر النصب أو الاستغلال. الشبابُ يُدفعون إلى سباقٍ محمومٍ للحصول على "وظيفة أحلام" سرعان ما تتحوّل إلى كابوسٍ من ساعات العمل الطويلة وأجورٍ لا تكفي لمواكبة الغلاء المُتعمَّد.  

أما الثقافةُ والأخلاق، فقد صارتا ضحيتين لمقصلة الرأسمالية. الفنّ يُختطف ليكون إعلاناً، والأدب يُحوَّل إلى سلعة تافهة، والعلوم الإنسانية تُهمَّش لصالح تخصصات تُنتج أرباحاً سريعة. حتى المشاعر الإنسانية لم تسلم من التلوّث؛ فالحبُّ يُباع في علب الشوكولاتة، والصداقة تُقاس بكمِّ الإعجابات على الشاشات، والحرية تُختزل في الاختيار بين عشرات العلامات التجارية!  

ولكنّ الأخطر هو تحويل الإنسان إلى كائن أناني منفصل عن جماعته. فالثقافة الاستهلاكية تزرع في الوعي فكرة أن السعادة فردية، تتحقّق عبر شراء المزيد، لا عبر بناء العلاقات أو الإسهام في المجتمع. هكذا يتكاثر "مدرّبو الحياة" و"التنمية البشرية"، وتتفكّك الأسر، وتتأكّل الروابط الاجتماعية، ويصير الجيران غرباء، والإنسان وحيداً رغم اتصاله الافتراضي بالعالم!  

لكنّ التاريخ يُعلّمنا أنّ الجشع مهما بلغت قوته، فإنه يحمل في أحشائه بذور فنائه. فها هي أصوات تعلو هنا وهناك، ترفض أن تكون وقوداً لآلة الرأسمالية. حركات تدعو إلى الاقتصاد التضامني، وشباب يعيدون اكتشاف الزراعة العضوية، وفنانون يرفضون تحويل أعمالهم إلى سلع. في أصقاع العالم، تنتشر مبادرات لإحياء الحِرف التقليدية، ولدعم المنتجات المحلية، ولإعادة تعريف النجاح بعيداً عن القوالب المادية.  

إنّ التحدّي الأكبر اليوم ليس في منافسة الرأسمالية، بل في إنقاذ الإنسان من براثنها. وهذا يتطلّب ثورة ثقافية تعيد تعريف مفاهيم السعادة والنجاح، وتعلي من شأن التعاون بدل التنافس، وتستبدل ثقافةَ "امتلك أكثر" بـ "عش بشكلٍ أفضل"، وتعيدنا إلى مقولات أسلافنا الإيجابية الجامعة مثل "جارك بخير أنت بخير" و"يد الله مع الجماعة".

لنكن على يقينٍ أنّ الشعوب التي تحاصرها القيود، قادرة ـــــ إذا استعادت وعيها ـــــ على أن تحوِّل سطوة الذهب إلى تراب، وأن تجعل من الأزمات منصة لولادة عالمٍ جديد، يُولد من رحم المعاناة، حاملاً بين يديه دروس الماضي، وفي قلبه أمل إنسان يرفض أن يكون رقماً في آلة لا تعرف إلا لغة الأرباح.  

ربما تكون الرأسمالية قد نجحت في تحويل العالم إلى سوق كبيرة، لكنها فشلت في قتل روح الإنسان التي تتوق إلى الحرية والمعنى. فالأرض التي أنجبت الحكماء والشعراء والمتصوّفين والمناضلين الكبار قادرة على أن تلدَ من جديد مَن يكتبون فصلاً آخر من التاريخ، حيث يُصاغ الاقتصاد والسياسة لخدمة الإنسان، لا العكس. فالإنسان ــــــ في النهاية ـــــ أغلى من أن يُختزل إلى رقم، وأعظم من أن يُشترى بذهب الدنيا.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك