"مقهى الباشورة" لخليل السواحري: القدس مكان وناس

تتحدّث قصص "مقهى الباشورة" عن أشكال المقاومة ضد المحتل الإسرائيلي، من تظاهرات، ومطاردات لعناصر الشرطة الإسرائيلية، وتفجيرات لمقارّ "الجيش" والشرطة والسجون والالتحاق بالعمل الفدائي، ونقل الأسلحة والذخائر.

  • القدس مكاناً وناساً في قصص ساحرة!
    "مقهى الباشورة" لخليل السواحري

"مقهى الباشورة" مجموعة قصصية على غاية من الأهمية فيما حملته من رسالة، وموضوعات، وسرد حكائي جميل، وما حملته من حذق فني جعلاها حاضرة في الوجدان لأنها كتبت في زمن الضعف والانكسار في أعقاب هزيمة عام 1967، من أجل أن تقول بوضوح شديد: من الممكن للإنسان أن يهزم في معركة، ولكن من غير الممكن أن تسحقه الهزيمة، وأهمية "مقهى الباشورة" ماثلة هنا في دعوتها للمقاومة الشعبية، لأنّ روح الانتصار رابخة فيها.

هذه القصص، كتبها الأديب الفلسطيني خليل السواحري، ابن مدينة القدس، حيث ولد وعاش وتربّى في منطقة السواحرة التي تجاور أسوار القدس الجنوبية، فالمكان في القصص هو المكاني المقدسي، وزمنها هو زمن هزيمة 1967، أي زمن الاحتلال الإسرائيلي للجزء الشرقي من مدينة القدس، وفي هذا الجزء يقع: الحرم القدسي، والكنائس المسيحية، وأهمها كنيسة القيامة، أما موضوعها فهو رفض هذا الاحتلال، وعدم الخضوع له، ومقاومته بأشكال ووسائل وأدوات مختلفة، والبطولة في هذه القصص ليست لجيش، ولا لقوات عسكرية مدرّبة، ولا لجماعات مسلحة، وإنما هي بطولة لأهالي القدس أصحاب الورش الصناعية، والمحال التجارية، والأفران، والمقاهي، والحرّاس الليليّين، والباعة المتجوّلين، والعمال الذين انقطعوا أو منعوا من الذهاب إلى أعمالهم، وباعة الخضار، والكعك، والشموع، والهدايا التذكارية.. الذين أحسوا بأنّ الاحتلال الإسرائيلي للجزء الشرقي من مدينة القدس أطبق على صدورهم أيضاً، وشلّ حركتهم، وطوى حريتهم، وأفسد حياتهم.

   في هذه المجموعة القصصية "مقهى الباشورة" تسع قصص مقطورة وراء بعضها بعضاً، كما لو أنها رواية القدس في تلك الفترة الزمنية، رواية القدس الرافضة للمحتل الإسرائيلي، ورواية القدس التي ترفض اقتراب المحتل الإسرائيلي من دور العبادة بسياراته وبغاله ودورياته الراجلة، والرافضة أيضاً لدخول المحتل الإسرائيلي للأسواق التجارية المقدسية، وتقييد حرية الناس في دخولهم وخروجهم من المدينة المقدّسة.

   وقد تخيّرت الحديث عن هذه المجموعة القصصية الآن.. لأنها تقف في مواجهة المقولات الراجفة والمستخذية من أنّ كل شيء انتهى، وأنّ الهزيمة أحاطت بالناس من جميع الجهات، تخيّرتها لأنها تقول لنا بأنّ قوة الفرد من قوة المكان، والتاريخ، والعادات، والتقاليد، والأعراف من جهة، وأنّ قوة السلاح قوة طارئة، ومتداولة، ومن يقتل بالسلاح، بالسلاح يقتل من جهة أخرى، وأنّ قوة المقاومة موجودة في الحسّ الشعبي الفلسطيني الذي قد يخسر معركة، ويمنى بهزيمة، لكن الاستسلام والخضوع والانكسار هي سلوكيات لا يعرفها الحسّ الشعبي؛ أردت القول: إنني تخيّرت الحديث عن هذه المجموعة القصصية لأنّ حالها الزمنية تشبه الحال الزمنية التي نعيشها في ظل الترويج الدعائي المشبوه بأنّ كل شيء انتهى، ولأنها تقول، عبر الصوت الشعبي المحتشد بالفطرة، والنباهة، والفطنة، والصدق، وحسّ المقاومة، لا شيء انتهى في ظل اختلال الموازين، وتوحّش الطغاة، وشيوع فظاعة الظلموت، لأنّ الحسّ الشعبي لم يعرف الهزيمة، ولم يذق طعماً من طعومها، وإن الإرادة وافرة، وهي بتمام قوتها، وإن الصراع لم ينته، وخسارة معركة أو جولة شيء، والهزيمة شيء آخر، والرهان الأوفى هو الرهان على الحسّ الشعبي الرافض للهزيمة، والانحناء، والخضوع.

   كاتب هذه المجموعة هو الأديب الفلسطيني خليل السواحري (1940-2006) الذي عاش حياته كلّها في عالم من المقاومة، والشجاعة، والصبر، والدعوة إلى مقاومة الظلم، لأن قوة الظلم، أياً كانت عزومها، هي زائلة، وطارئة، لأنّ الحسّ الشعبي لم يقبل بها، وهو يواجهها بأشكال وصور وأساليب مختلفة. 

درس خليل السواحري في بلدته "عرب السواحرة" المراحل الأولى من تعليمه، ثم درس الشهادة الثانوية في ثانوية الرشيدية في القدس، والتحق بمعهد المعلمين وتخرّج فيه، ثم سافر إلى دمشق ليدرس في كلية الآداب، فتحصّل على شهادة البكالوريوس في الفلسفة، ثمّ التحق بالجامعة اليسوعية في بيروت وتحصّل على شهادة الماجستير في الفلسفة، درّس في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية مرحلة من عمره، ثم انصرف إلى عالم الكتابة والإبداع، فشغل منصب المدير العام للمكتبة الوطنية الفلسطينية، وكان له أن أسس مع زملائه الكتّاب والأدباء الاتحاد العامّ للكتّاب الفلسطينيين، كما أسس رابطة الكتّاب الأردنيين مع زملائه سنة 1974، وقد ترّأسها فترة من الزمن، وشغل منصب مدير مديرية الإعلام الفلسطينية، ومدير مديرية الدراسات في وزارة شؤون الأرض المحتلة، وحاز على أوسمة، وشهادات تقدير، وعدة جوائز أدبية. 

وقد بدأ السواحري بنشر قصصه ودراساته النقدية والفكرية اعتباراً من أوائل عقد السبعينيات في القرن العشرين المنصرم، وله في القصة القصيرة عدة مجموعات قصصية، طبعت في فلسطين، والأردن، وسوريا، ولبنان، والعراق طبعات عديدة، وله في الدراسات كتب كثيرة دارت حول الآداب والفنون الفلسطينية، مثلما دارت حول التراث الفلسطيني، ومن أهمها كتابه (زمن الاحتلال) الذي طبع عدة مرات، وفيه يسلّط الضوء على الثقافة الفلسطينية بكلّ وجوهها وأجناسها، ويتلبّث للحديث عن أعلامها، والزمن المرّ الذي عانت منه كي تبدو وتتجلى رغماً عن أنف الاحتلال الإسرائيلي.

   "مقهى الباشورة" هي قصص الناس، وسيرهم، وأفعالهم، وأحلامهم.. وهم يواجهون الاحتلال الإسرائيلي للقسم الشرقي من مدينة القدس.. رفضاً ومقاومة، كيما تبدو ثنائية الصورة في زمن الاحتلال الذي يريد إخضاع الناس وتركيعهم والهيمنة عليهم، وسلب حريتهم، ومحو هويتهم الوطنية من جهة، وأفعال المقاومة الشعبية التي ترفض ثقافة الإخافة والتهديد والإرهاب من جهة أخرى، وتعلي شأن ثقافة المقاومة والمواجهة في البيت والمدرسة والشارع.

   كلّ شيء في هذه القصص واقعي، المكان، والزمن، والشجاعة، والمقاومة بكلّ أشكالها، والحسّ الشعبي، والسجون، والمعاناة، والأسماء كلّها واقعية، أسماء الأمكنة، والشوارع، والناس، والمحال، والمقاهي، والأسواق؛ كلّ شيء واقعي في هذه القصص كما لو أنها خرائط جغرافية للمكان، وخرائط للأرواح البشرية وهي تواجه الاحتلال الإسرائيلي، وخرائط للأحلام من أجل أن يرى أهالي القدس مدينتهم محرّرة من الهيمنة الإسرائيلية التي وصفوها في أحاديثهم بأنها كابوس أو رابوص، ولا بدّ من محوهما.

   "مقهى الباشورة" هو مقهى شعبيّ معروف في مدينة القدس، يمتلكه رجل مقدسي صاحب هيبة ومكانة، ويأتي إليه أبناء المدينة وزوّارها، فهو  فضاء للتلاقي ما بين أهل الأرياف المحيطة بالقدس وأهلها، وهي محطة للاستراحة، وتبادل الأسئلة، ومعرفة الأخبار، واللقاءات والمواعدات، لكنها حين صارت تحت هيمنة الاحتلال، غدت مكاناً للخوف، والحذر، والأسئلة الشيطانية، ودوريات "الجيش" الإسرائيلي، فالاحتلال الإسرائيلي والطمأنينة لا يلتقيان، والاحتلال الإسرائيلي واللقاءات الحميمة لا يلتقيان، لقد تحوّل "مقهى الباشورة" إلى مكان للأسئلة الرجيمة، وإلى كمائن لاعتقال الناس، وجهة للخوف من المخبرين، وأفراد الشرطة الإسرائيلية المتخفّين باللباس المدني، لهذا، يغلق صاحب المقهى.. المقهى، ويريح نفسه من أسئلة دوريات الاحتلال الإسرائيلي عن فلان وفلان، لا بل يلتحق هو نفسه برجال المقاومة السريّين، ليجد أنّ الفرق كبير وشاسع ما بين صفة الفدائي وصفة صاحب المقهى. 

   ولأنّ تفاصيل المكان المقدسي، في هذه القصص، كثيرة ومتعدّدة، فإنّ أهمية القصص تنبثق من أهمية المكان، فهي تصف الأمكنة وصفاً دقيقاً، وتماشي الشوارع شارعاً شارعاً، وتواقف الأسواق سوقاً سوقاً، وتجول في الساحات ساحة ساحة، وتصعد الأدراج، وتسير تحت القناطر والأقواس، وتتلبث عند أسوار القدس، والأعمدة، والدهاليز، وتستظل بالأشجار، وتجالس عتبات المعابد الدينية، وكأنّ خوف هذه القصص من التحوير والتهويد للأمكنة هو الذي جعلها تمعن في ذكر التفاصيل والإكثار من الوصف، وبيان العلامات التي تميّز البيوت الحديثة من البيوت القديمة، وهي التي تقيس بالأمتار بعد المكان عن المكان، والمقهى عن المقهى، والصيدلية عن الصيدلية، والمدرسة عن المدرسة، والشارع عن الشارع، وتسمّي الأمكنة، وتذكر أرقام البيوت، وتكرّر أسماءها لأنّ الخوف من أن تطالها الأيدي الإسرائيلية بالتزوير والتغيير.. هو خوف كبير، ولعلّ قارئ القصص يشعر بأهمية حضور الأمكنة المقدسية سواء أكانت أمكنة لمحال تجارية في سوق، أم كانت مدارس لتعليم الطلبة، أم كانت مؤسسات فلسطينية معنية بشؤون الحياة، مثل بيت الشرق، ومثل المتاحف على اختلاف اهتماماتها، والأسوار، والحدائق، والتلال، والمقابر، والدروب، والأزقة، والطرق، والخانات، والحمامات الشعبية، والمشافي، والتكايا، والزوايا، والمزارات، كل هذه الأمكنة تمتاز بالهيبة والحضور والروح العمرانية المشدودة للتاريخ الفلسطيني.

   إنّ حرص القصص على وصف الأمكنة أكسبها أهمية مضافة، لأنّ بطولة القصص هي بطولة للأمكنة الباقية التي قرّت قداستها في الوجدان الفلسطيني، مثل درب الآلام، والجلجلة، وسائر المعابد الأخرى.

   وقد تحدّثت القصص عن هدم وحرق حارة المغاربة المجاورة لحائط البراق الشريف، بكلّ بيوتها وأشجارها ودروبها ومدارسها، ونبّهت إلى أنّ هذا الفعل الناقص الشائن ليس سوى مقدّمة لأفعال إسرائيلية قبيحة مقبلة سيقوم بها المحتل الإسرائيلي لاحقاً، كما تحدّثت قصص "مقهى الباشورة" عن أشكال المقاومة ضد المحتل الإسرائيلي، من تظاهرات، وعصيان مدني، وإضرابات، وتوزيع منشورات، ومطاردات لعناصر الشرطة الإسرائيلية، وتفجيرات لمقارّ "الجيش" والشرطة والسجون، وإغلاق للطرق والأسواق، والالتحاق بالعمل الفدائي، ونقل الأسلحة والذخائر، وتخبئتها بعيداً عن عيون الشرطة الإسرائيلية، ورفض دفع الضرائب، وعدم تنفيذ الأوامر الإسرائيلية.

   قصص "مقهى الباشورة"، ورغم مرور الزمن عليها، ما زالت على غاية من الحيوية في احتضان نهج المقاومة والإيمان بها سبيلاً للخلاص من وحشية الإسرائيلي وعنصريّته، وهي قصص على غاية من حضور المكان وقدسيّته الآبدة، وعلى غاية من حضور الحسّ الشعبي حتى ليصير كلّ ما في القصص هو ما اشتمل عليه الوجدان الفلسطيني، وهو كلّ أحلام الفلسطينيين في الحرية، والانعتاق من ظلموت الإسرائيليين، من أجل ملاقاة الصباحات الندية المنتظرة.

اخترنا لك