المأزق اللبناني من الدولة المؤجلة إلى الدولة الفاشلة

يبحث كتاب "المأزق اللبناني" في إمكان القراءة اللاطائفية لمسيرته، سياسياً واجتماعياً، للتأكيد أن النظام السياسي في لبنان هو الذي جعل المجتمع اللبناني مجتمعاً طائفياً.

  • "المأزق اللبناني من الدولة المؤجلة إلى الدولة الفاشلة" لعاطف عطية

لم يجهد الدكتور عاطف عطية ليبين في كتابه "المأزق اللبناني: من الدولة المؤجلة إلى الدولة الفاشلة"، أن منعة النظام السياسي اللبناني جاءت من أسسه الطائفية المبنية على الانتماء والعصبية الطائفيين، وكان من جملة ما توصّل إليه المؤلّف، في تحليل ما جاء به اتفاق الطائف، بعد تنفيذ بعض بنوده، النظام السياسي اللبناني. وما أُنقذ منه لم يكن أكثر من إعادة توزيع صلاحيات بين الطوائف وزيادة عدد النواب والمناصفة في أمور السلطة بين المسيحيين والمسلمين، من دون مراعاة مسألة النسبية الديمغرافية بينهما، ومن دون الاهتمام بدينامية الطوائف من الناحية العددية.

يكشف الدكتور عطية، في كتابه، أن ما كان يهم لبنان هو الاتكاء على الدول الشقيقة والغنية، إما لدعم مسيرة التنمية، وإما لحل المشكلات المتأتية عن خلافات أهل الحكم في الداخل. ولم تُعِر الدولة اللبنانية أي اهتمام برسم السياسة الخارجية، والأخذ في الاعتبار المتغيرات الإقليمية والدولية، في صورة يمكن أن تنعكس على الأوضاع في لبنان، بسبب عجزها البنيوي المبني على حكم الطوائف والاستجداء الدائم بالحل الخارجي للأزمة اللبنانية المولودة من أزمات متواصلة من عهود سبقت اتفاق الطائف (1989).

المكونات الطائفية والفساد

ما تجمع بعد ذلك من أحداث أثبت أن لا حل مرتجى من هذه الأنواع من الاتفاقات، لأن طريقة تدبيرها، وما جاء فيها من مبادئ وبنود، ما كانا أكثر من وسائل تهدئة الخواطر لتمرير المسائل الخلافية بالتي هي أحسن، من دون تحميل أنفسهم عناء البحث في الجوهر. والجوهر ما هو إلا مضمون النظام السياسي والاجتماعي في لبنان، والحامل في طياته بذور فساده وإفساده، عبر القيّمين عليه.

جاء هذا الكتاب ليؤكد، بالوقائع والأحداث التاريخية البعيدة والقريبة، أن منعة النظام السياسي اللبناني جاءت من أسسه الطائفية ذات الحضور البيّن والمؤثّر في توجّهات الناس، العامة منهم والخاصة، المبنيّة على الانتماء الطائفي والعصبية الطائفية المتراكمة منذ قرنين من الزمن.

بالإضافة إلى الوضع الطائفي في لبنان، نظاماً وممارسة، يبحث كتاب "المأزق اللبناني" في إمكان القراءة اللاطائفية لمسيرته، سياسياً واجتماعياً، للتأكيد أن النظام السياسي في لبنان هو الذي جعل المجتمع اللبناني مجتمعاً طائفياً، وجعل اللبنانيين أفرقاء طائفيين. ومَن خلا من إحساس انتمائه الطائفي تربى على غير ما يقوله ويمارسه النظام الطائفي. واستخلص الكاتب أن المخرج الصحي الوحيد للبنان هو الخروج على هذا النظام إلى نظام أكثر حداثة وأكثر ديموقراطية وأكثر بعداً عن الطائفية والنظام الطائفي.

جبل لبنان بتقسيماته الطائفية

يشير المؤلف الدكتور عطية في كتابه إلى بروز جبل لبنان، بسكانه الموارنة الذين استأثروا بقسمه الشمالي، والدروز الذين أخذوا قسمه الجنوبي موطناً لهم، لذلك سمي هذا القسم بجبل الدروز، من أجل تمييزه من القسم الشمالي الذي احتفظ باسمه الأصلي جبل لبنان مع "إدغام" ماروني. وربما، لهذا السبب رفض كثيرون من الموارنة من الخاصة والعامة، الفصل بين الموارنة ولبنان، ويقولون بالأمة المارونية. لا يقتصر أمر التسمية على الموارنة، كونهم كذلك، ويربط انتماءهم المذهبي بجغرافية لبنان، ذلك بأن الدروز أطلقوا اسمهم على القسم الجنوبي من جبل لبنان، فارتبط، أيضاً، الانتماء المذهبي بجغرافية القسم الجنوبي من الجبل. وهكذا بالنسبة إلى الطوائف التي شاركت في بناء لبنان الحديث، طوائف وجماعات عُرفت بانتمائها المذهبي: الشيعة والأروام والعلويين. هكذا كانوا يتداولون التسمية في الداخل، وهكذا تداول الخارج التسمية في تعدد دواخلها، إذ لم تعرف الدولة بمعناها السياسي الحديث في بلاد الشام، إلا بعد تجربة تقسيمها إلى دويلات - طوائف مع "إعلان لبنان الكبير" وبعده.

هذه هي الطوائف التي بُنِيَ عليها النظام السياسي الطائفي في لبنان. والطائفي هي بالنسبة إلى الطائفة. ذلك بأن لا إنتاج للطائفة إلا الطائفية كونها الانتماء السياسي والانتماء الاجتماعي لابن الطائفة أولاً، وللزعيم الممثل لأبناء طائفته، ثانياً، والدافعة للزعيم إلى أن يكون العامل المستميت للمحافظة على موقعه هذا، ثم توريثه، في مقابل الطامحين من أبناء طائفته.

التركيبة الديمغرافية في لبنان

يرى المؤلف أنه لا يمكن فهم الواقع الاجتماعي التاريخي للبنان إلا بالنظر، أولاً، في تركيبته الديموغرافية، كونه مجموعة من الطوائف كان لها وجودها التاريخي المنظور، ثم حركتها وتغيرها العددي ومواقعها الوازنة والضعيفة والمتفرقة، وعلاقات كل منها بما يجاورها من الطوائف، وتغير هذه العلاقات من الإيجاب، في أحوال السلم، إلى السلب أو التوتر، والذي غالبا ما ينشأ من تبدل التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ظروف بالغة الصعوبة، وفي علاقات داخل الطائفة نفسها بين الإقطاعيين وتابعيهم بتفاوت درجاتهم، وصولاً إلى والي الولاية، ثم إلى الأعلى. ومن أجل تنظيم التعامل مع هذه الأقليات، أصدرت السلطنة العثمانية نظام "الملل" العثماني، وأظهرت فيه أن المسؤول والممثل لكل طائفة أو مذهب (أو ملة) هو رجل الدين الأعلى مرتبة في طائفته. وتعاملت مع كل الطوائف على هذا الأساس. ولم يُعرف أي فرد مهما علت مرتبته أو دنت إلا كونه ابن هذه الطائفة أو تلك.

ويشير المؤلف، في كتابه، إلى أنه بدءاً من الثلث الأول من القرن السابع عشر عرف جبل لبنان الجنوبي نوعاً من الأمن والاستقرار والازدهار الاقتصادي. وظهر ذلك من خلال تشجيع الزراعة، الأمر الذي أدى إلى استجلاب الفلاحين من شمالي الجبل ليعملوا في هذا القطاع. وشجع هؤلاء على النزوح "التسامح الديني". وكانت الأكثرية الساحقة من هؤلاء فلاحين ضاقت بهم أراضي الشمال، بعد النزوح المسيحي السوري من موارنة وغيرهم، نتيجة الاضطهادات التي حدثت ضمن الدين الواحد، أو بين المسيحيين وغيرهم من المذاهب الأخرى.

الاستقلال عن السلطنة

يؤكد الدكتور عاطف عطية أن تحديد السلوك السياسي والتوجه اللذين حكما سكان جبل لبنان من أجل الوصول إلى نوع من الاستقلال عن السلطنة العثمانية، ومعرفة قوة المحرك الطائفي الذي قاد هذا السلوك، لا يمكن أن يُفهما عبر عزل أحدهما عن الآخر. فالمشكلات، التي كان يعيشها جبل لبنان، هي نفسها المتفشية في المنطقة كلها.

أمام هذا الواقع الطائفي الصارم، برزت الخلافات حتى في أصغر الأمور وأتفهها. ونتجت من بعض الخلاف مشكلات مثلاً بشأن توزيع الأموال الأميرية، ومن البديهي أن يجر هذا السلوك الطائفي كل طائفة إلى القيام بأي فعل يحافظ على مرتبتها في النظام من ناحية، وعلى موقعها تجاه الطوائف الأخرى، من ناحية ثانية. ومن أجل المحافظة على مكاسب كل طائفة، وعلى عدم طغيان الطوائف الأقوى عليها، لجأت كل منها، إذا رأت ذلك ممكناً، إلى جلب حماية لها تؤمنها الدول الأوروبية. من هذه الطوائف ما كانت على علاقة سابقة بدولة أجنبية، ومنها ما بنت علاقة جديدة. وبذلك، استتبعت الدول الأوروبية الطوائف، وكسبت بذلك ما أنتجه النظام الأساسي، وعززت الشعور والممارسة الطائفيين من طريق الاستقواء بالخارج، المعزّز للاستقواء الداخلي لدى كل طائفة، وبالتراتب للمحافظة على التوازن اللامتكافئ بقوة النظام.

علاقة الطوائف مع الغرب

أما العلاقة بين الدول الأوروبية والطوائف، فيكشف كتاب "المأزق اللبناني" أن العلاقة ظهرت إلى العيان في شكل أكثر وضوحاً. مثلاً، حماية فرنسا للموارنة وتمثيلها لمصالحهم، وحماية روسيا للأرثوذكس، وحماية إيطاليا والنمسا للكاثوليك، وحماية بريطانيا للدروز. أما المسلمون السنّة، فرضوا قانعين بحماية السلطان العثماني، ووجد البروتستانت في الألمان والأميركيين من يدافع عن مصالحهم. أما الشيعة، فلم يجدوا من ينصرهم آنذاك.

ويجد المؤلف أن هذه الخلاصة تمكننا من التساؤل: من المسؤول عن إيصال اللبنانيين إلى هذه الدرجة من التفكك، ومن الظلم والإذلال؟ ومن المسؤول عن تعطيل مرافق الدولة بأجهزتها كافة؟ النظام الطائفي، أم زعماء الطوائف؟ وأين موقع عامة الناس من هذا الوضع؟ وكيف تتوزع آراؤهم وتوجهاتهم وميولهم وانتماءاتهم؟ وهل يتباينون في ذلك عن قادتهم وزعمائهم وأهل الحل والربط في طوائفهم؟ أتاح النظام السياسي اللبناني للطامحين، بحسب كتاب "المأزق اللبناني"، أن يبنوا زعاماتهم الخاصة على حساب الشأن العام، ويرسخوا قوتهم في الأمر الفرعي باستغلال الأمر المركزي، وبسطوا نفوذهم من خلال ما أعطته الطائفة لهم، وما أضفاه الشأن العام على مواقعهم في السلطة.

فكرة الدولة الحديثة

من مفارقات الحياة السياسية في لبنان أن بداية استقلاله حملت أفكاراً لامعة في كيفية بناء الدولة حملها البيان الوزاري الأول للبنان، الذي أظهر أن في الإمكان إنشاء الدولة الحديثة، التي عليها أن تجمع شمل اللبنانيين على العدالة والمساواة أمام القانون. لكن النظام الطائفي - إعاقته إنشاء الدولة الحديثة في لبنان - تمثلت العقبة الأولى أمامه بالنكبة الفلسطينية وقيام "إسرائيل" عام 1948. وما حل بفلسطين انعكس مباشرة على الوضع اللبناني، وجمد البحث في أي إمكان لتطوير النظام من إلغاء الطائفية الطموح الذي بقي طي الصدور، والصورة الموقّتة لتوزيع المناصب والوظائف على الطوائف بقيت سارية منذ ما يقرب من قرن.

الدولة الفاشلة والمؤجلة

لمعرفة خصائص الدولة اللبنانية، وهي الدولة المؤجلة، بناء على إرادة نظامها السياسي وسياسييها، لا بد من الاطلاع على أحوال المجتمع في لبنان، انطلاقاً من أن الدولة هي وجه المجتمع، والقائمة بخدمته، والملبية لمتطلباته على الأوجه كافة. فإن الدولة لم تصل بعد إلى مرتبة الدولة الحديثة، والمجتمع في علاقته بالدولة لم يصل بعد إلى مرتبة الأمة. أما العجز في النظام والضعف في الدولة فكانا من العناصر الملازمة للدولة اللبنانية منذ وجودها، فلا أزمتها انتهت ولا استقر المجتمع اللبناني على حال، على رغم كل محاولات التوافق والمواثيق والاتفاقات منذ إعلان لبنان الكبير (1920) حتى اليوم. ويكشف المؤلف ان ما جرى منذ شباط 2005، حتى اليوم (2024)، يشير، بما لا يقبل الجدل، إلى أن الدولة في لبنان انتقلت من مرحلة الدولة المؤجلة بإرادة زعمائها السياسيين، للإبقاء على مصالحهم، كزعماء، على اختلاف انتماءاتهم الطائفية والمذهبية والمناطقية، وتربصهم، بعضهم ببعض، إلى مرحلة الدولة المعطلة أو الفاشلة. كان هؤلاء، وما زالوا، متفقين على البقاء والتعاون، شرط ألا يدوس واحدهم طرف الآخر. وبالتالي، فإن كل شيء يبقى بخير. لذا أجلوا قيام الدولة، وأوصلوها إلى قاع لا قرار له، ليبقوا بحماية طوائفهم وأتباع طوائفهم.

أما الأسباب المهمة التي تشي بفشل الدولة، فهي العجز عن القيام بمهامها كسلطة مدنية وعسكرية، وعدم قدرتها على القيام بوظائفها، والإيفاء بمتطلبات الحياة اليومية والضرورية للمجتمع بكل فئاته، كونها دولة الرعاية والخدمة الاجتماعية، والمحافظة على الأمن الغذائي والأمن الصحي، والإشراف على الوضعين الاقتصادي والمادي، وقيادة ذلك وتخطيطه، بالمشاركة مع قوى المجتمع الاقتصادية والمالية.

كتاب "المأزق اللبناني: من الدولة المؤجلة إلى الدولة الفاشلة"، جاء ليكشف، عبر الوقائع والأحداث التاريخية البعيدة والقريبة، أن منعة النظام السياسي اللبناني من أسسه الطائفية ذات الحضور البين والمؤثر في توجهات الناس المبنية على الانتماء الطائفي والعصبية الطائفية المتراكمة منذ قرنين من الزمن، وعلى أنواع من الانتماءات الأخرى. كما كان، منذ إنشائه، مجتمعاً غير متجانس ودولة ضعيفة ذات وجهين مستحدثين يأخذان من مظاهر الحداثة ثوباً حديثا على غير ما تفصح عنه الكتب والمواثيق. وأنتج هذا التناقض سلسلة من الأزمات السياسية متفاوتة القوة والتأثير، وصلت في أوجها إلى حرب مدمرة على مدى خمسة عشر عاماً، وإلى فراغات في السلطة السياسية، استمرت أعواماً، في تواتر متسارع لا شفاء منه. ووصل إلى ما وصل إليه.