بحثاً عن المعنى (الكتابة الأدبية في عصر الفوضى الرقمية)
الأرقام تُذهل: آلاف الكتب تُنشر سنوياً، كثير منها يفتقر إلى أدنى مقومات الجودة، ما يدفع البعض إلى التساؤل: هل صارت الكتابة مجرد تسلية عابرة، أم أنها ما زالت تحمل رسالة جمالية أو فكرية؟
-
(باتريك هروبي)
مع افتتاح "معرض بيروت الدولي للكتاب"، يلاحظ المتابع كثرة حفلات توقيع الكتب خلال أيام المعرض (وبينها لكاتب هذه السطور)، وهي الحال نفسها في معظم معارض الكتب العربية وغير العربية؛ فهل تدلّ كثرة الكتب المنشورة على عافية أدبية، أم أن الاستسهال بات سمة العصر، خصوصاً في ظلّ الطفرة التكنولوجيّة المتوَّجة بالذكاء الاصطناعي الذي بات قادراً على كتابة النصوص باختلاف أنواعها ولغاتها؟
نضع علامة الاستفهام في زمنٍ تتحول فيه الكلمات إلى وحدات رقمية تتدفق بلا توقف عبر شاشات الهواتف والحواسيب، حيث يصبح السؤال عن معنى الكتابة الأدبية إشكالياً وجودياً. فالعالم اليوم يشهد تحولاً جذرياً في مفهوم الإبداع؛ حيث لم تعد الكتابة حكراً على نخبة تمتلك أدوات اللغة وخبرات الوجود، بل صارت متاحة لكل من يملك إصبعاً يلمس شاشة أو لوحة مفاتيح.
في هذا المشهد المُشّبع بالضجيج، تُطرح أسئلة مصيرية: هل ما زال للكتابة الأدبية، النابعة من صميم الوجدان الإنساني، مكانٌ تحت شمس هذا العصر؟ أم أن الفيض الهائل للمحتوى الرديء غمرَ جوهرها، وحوّلها إلى مجرد أصداء تائهة في فضاء رقمي لا متناهٍ؟
لم تعد الكتابة فعلاً مقدساً يحتاج إلى امتياز ثقافي أو أكاديمي، فوسائل التواصل الاجتماعي ومنصات النشر الذاتي حوّلت كل إنسان إلى "كاتب محتمل". هذا الانفتاح يحمل في طياته تناقضاً صارخاً: فمن ناحية، هو انتصار للديمقراطية الإبداعية، حيث تُكسر حواجز النخبوية وتُسمع أصوات كانت مكبوتة. ولكن من ناحية أخرى، يتحول الفضاء الأدبي إلى سوق مفتوحة تختلط فيها الجواهر بالزجاج المكسور.
الأرقام تُذهل: آلاف الكتب تُنشر سنوياً، كثير منها يفتقر إلى أدنى مقومات الجودة، ما يدفع البعض إلى التساؤل: هل صارت الكتابة مجرد تسلية عابرة، أم أنها ما زالت تحمل رسالة جمالية أو فكرية؟
في هذا السياق، يبرز دور الذكاء الاصطناعي كعامل مضاعف للتعقيد؛ فالقدرة على توليد نصوص بواسطة روبوتات ذكية تطرح إشكالية الهوية الإبداعية. إذا كانت الآلة قادرة على محاكاة أسلوب فرانز كافكا أو فيودور دوستويفسكي، فما الذي يميز الكتابة الإنسانية؟
الجواب يكمن في أن الذكاء الاصطناعي، رغم براعته التقنية، يظل عاجزاً عن استحضار "الشرارة الوجودية" التي تشع من تجربة بشرية فريدة. الكتابة الأدبية الحقيقية ليست ترتيباً لغوياً فحسب، بل هي شهادة على صراع الذات مع العالم، مع الذكريات، مع الألم والفرح والتي لا تُختزل في خوارزميات.
في عالم تُسيطر عليه ثقافة "الإعجاب" و"المشاركة السريعة"، حيث تتحول الأفكار إلى مقاطع مصغّرة وقوائم مختصرة، تكتسب الكتابة الأدبية عمقاً جديداً كفعل مقاومة. إنها تصير ملاذاً للذين يرفضون انسيابية المحتوى السطحي، ويسعون إلى حفر أخاديد في قشرة الواقع. الرواية، القصيدة، النص المسرحي، هذه الأجناس لا تزال تقدم مساحة للتأمل البطيء، للحوار مع الذات والآخر، للغوص في تعقيدات الوجود التي لا تستوعبها تغريدة أو منشور.
صحيح أن الكتب الرديئة تملأ الرفوف الافتراضية، لكن هذا الفيض قد يزيد من قيمة الأعمال الأدبية الجادة. فالقارئ الحصيف، المُنهك من زحام الكلمات الفارغة، يبحث عن نصٍّ يلامس أعماقه، يُعيد له الإيمان بقوة اللغة. هنا يبرز دور النقد الأدبي والمؤسسات الثقافية كمرشحاتٍ ضرورية، تساعد على تمييز الأصيل من الزائف، حتى لو بدا ذلك أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش.
ربما تكون الكتابة الأدبية اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى، ليس لأنها تمنحنا الجمال، بل لأنها تذكرنا بما يعنيه أن نكون بشراً. في عصر تتحكم فيه الخوارزميات في تدفق المعلومات وتشكيل الآراء، تصير الكتابة فعل تحرر؛ محاولة لاستعادة الفردوس المفقود حيث الكلمة طليقة، غير خاضعة لمعايير النجاح الرقمي. حين يكتب الإنسان من وجدانه، فهو لا ينتج نصاً فحسب، بل يشيّد عالماً موازياً تُسمع فيه همسات روحه التي قد تُغرقها ضوضاء الوسائط المتعددة.
الذكاء الاصطناعي قد يصنع لنا نصوصاً متقنة، لكنه لن يكتب أبداً عن رائحة المطر في طفولتنا، أو عن غصة الفراق التي لا تُوصف. هذه التفاصيل الصغيرة، الحميمة، المُثقلة بثقل الذاكرة، هي ما يجعل الأدب فنّاً لا يُستنسخ. الكتابة الأدبية، بهذا المعنى، تصير طقساً وجودياً: اعترافاً بهشاشتنا، واحتفاءً بغرابتنا، وتأكيداً على أن حياتنا – رغم كل شيء – تستحق أن تُروى.
في النهاية، الكتابة الأدبية ليست مجرد حروف تُسطر، بل هي شاهد على رحلة الإنسان في بحثه عن المعنى. قد تغير التكنولوجيا أدواتنا، وقد تزيد الضوضاء من حولنا، لكن الجوع إلى الحكايات التي تُضيء عتمة الوجود سيظل جمرة متقدة في القلب البشري. الكتابة الجيدة، كالنجم، تُبصر في الظلام: كلما اشتدت عتمة العصر الرقمي، ازدادت حاجتنا إلى كتّاب يرفعون مصابيح الكلمة، لئلا نضيع في متاهة اللامعنى.