بيروت المبدعة لا تستقر على يقين (*)
بيروت لم تمنحنا هواء الحرية فحسب، بل ألهمتنا سرّ القصيدة وسحرها الذي يختلط فيه الجمال بالألم. ترقص أحياناً كالطير المذبوح، وأحياناً أخرى كحورية خرجت لتوّها من قاع البحر.
-
شعراء في لقاء مجلة "شعر" يتوسطهم يوسف الخال (دار نلسن)
ليست بيروت مجرد مدينة كسائر المدن. إنها فكرةٌ قابلةٌ للسُكنى، حلمٌ معقد يحمل في طياته كل تناقضات الوجود.
هي المدينة التي ترفض أن يكون لها تعريف واحد، وتأبى إلا أن تكون سؤالاً مفتوحاً، ومساحة لجدلٍ لا ينتهي.
منذ عقود، تلقي بظلالها على خارطة الثقافة العربية، لا كموقعٍ جغرافيٍ متميزٍ فحسب، بل كمشروعٍ ثقافيٍ وإبداعيٍ متجدد.
في مقاهيها العتيقة، حيث لا يزال عبق التبغ يمتزج برائحة القهوة والورق القديم وشهد الحبر والمعنى، جلس يوسف الخال وأدونيس وشوقي أبي شقرا وأنسي الحاج ورفاقهم، ليغيروا خريطة الشعر العربي، محاولين اقتلاع اللغة من جذورها المألوفة لزرعها في تربةٍ أكثر غرابةً وحداثةً.
هؤلاء الشعراء رأوا في بيروت "مختبراً للأسئلة الكبرى"، ووجدوا في أحيائها المتداخلة استعارةً للغة التي يحلمون بها: لغة تتعدد فيها المعاني ولا تستقر على يقين.
هنا، في هذه المساحات التي يتسع أفقها لأضداد الفكر والهوى، ولدت قصيدة النثر الحقيقية، متحررة من قيود العمود والبحر، كما تتحرر المدينة نفسها من قيود التعريف.
على أرصفتها الموشومة بندوب الحروب والمحن، مشى نزار قباني فوجد المرأة - المدينة. لم تكن بيروت في شعره مجرد حبيبةٍ، بل كانت ست الدنيا، تلك الأنثى المتعالية التي تجمع بين جمال الحضارة وشراستها. وهو القائل "إن الحب في بيروت مثل الله في كل مكان". وهي عنده، كالمرأة، ساحة للتمرد والجمال والهزيمة المنتصرة. هي القصيدة التي تكتب نفسها بنفسها، بجرأة من لا يخشى الانهيار، لأن الانبعاث جزء من جيناتها.
أما محمود درويش الذي وجد في ربوعها منفى مؤقتاً، فقد رأى فيها مرآةً لفلسطين. كانت بيروت بالنسبة إليه "أم الشرائع"، التي احتضنت ثورة شعبه حين ضاقت به السبل.
في "مديح الظل العالي" و"ذاكرة للنسيان"، تحولت شوارعها إلى نصوصٍ سرديةٍ تحمل هم المكان المغتصب وعبق المقاومة، ولكنها حملت أيضاً دفء اللحظة الإنسانية حيث يلتقي الألم بالفرح في أماكنها الملأى بالجروح والندوب.
هنا، تعلم أن الفن ينبثق من صميم الجرح، وأن الكلمة سلاح آخر في معركة الوجود.
هنا أيضاً انبثق قلم غسان كنفاني شاهداً على انحياز بيروت للحق الفلسطيني. فكانت المدينة قبساً لأحلامه، ومرآةً لجراح وطنه السليب، وطلقة حبر في صدر المحتل الغاصب، وهتافاً دائماً لأجل الحرية.
هذا بالضبط هو سرّ بيروت الأبدي: هامش الحرية الفسيح الذي يتسع لكل التناقضات والأضداد. فبيروت لا تسأل الشاعر عن جنسيته، ولا الفنان عن انتمائه، ولا الأديب عن مذهبه. هي تمنحهم مساحةً واحدةً مشتركةً: مساحة الحلم والتجريب.
إنها الوعاء الذي يحتضن كل الأصوات؛ من فينيقية سعيد عقل إلى ثورية غسان مطر؛ ومن مسرحيات شامل ومرعي ومارون نقاش والأخوين الرحباني وحسن علاء الدين (شوشو) وجلال خوري وروجيه عساف ونضال الأشقر، إلى المسرحيين الجدد الذين يضيئون خشباتها كل ليلة رغم أنف الحرب والأزمات المتناسلة.
ومن روايات محمد عيتاني (الروائي البيروتي المظلوم إعلامياً ونقدياً) وغادة السمان وليلى بعلبكي وهدى بركات وعلوية صبح، إلى أجيالٍ جديدةٍ تكتب روايات الحب والحرب على وقع متغيراتٍ هائلةٍ في زمن التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي.
ومن عمر الزعني إلى صباح ونجاح سلام وسعاد محمد ووديع الصافي ونصري شمس الدين، وفيروز التي صارت صوت المدينة النابض. ومن موسى الصدر ومحمد حسين فضل الله وعبد الله العلايلي وصبحي الصالح إلى جورج خضر وغريغوار حداد والذين يسيرون على دروب التلاقي والانفتاح.
إنها الفسيفساء البشرية حيث يلتقي الشرق بالغرب، التقليدي بالحداثي، في حوارٍ دائمٍ أحياناً، وفي صراعٍ مريرٍ أحياناً أخرى. هذا التلاقح هو ما يمنحها قوتها الإشعاعية، وجاذبيتها التي لا تنضب.
ولا يغيب عن بال بيروت المبدعة فنانو الأغنية السياسية أو الملتزمة، الذين كانوا علامة فارقة من علامات بيروت الكثيرة. ففي عزّ الحرب والتقاتل والذبح على الهوية، وُلدت تجارب رائدة، وذاعت أصواتٌ رافقت أجيالاً في البيوت والملاجئ والخنادق.
هنا أطلق مرسيل خليفة "صرخة ثائر"، وأنشد أحمد قعبور "أناديكم"، وغنّى خالد الهبر لعيترون وكفركلا، وهتف وليم نصّار للمقاومين على طريق عيتات، ورفرف صوت أميمة الخليل مع عصفور طلّ من الشبّاك. كلها تجارب فنية ملتزمة لا يمكن فصلها عن روح بيروت الإبداعية الخلّاقة.
فيها وُلدت أجيال متتالية من الشعراء الذين تعددت تياراتهم الشعرية ومذاهبهم الفكرية، لكنهم انتموا جميعاً إليها. الآتون من حرمان أريافهم، واللاجئون من ظلم أنظمتهم، وجدوا فيها ملاذاً لهم، ورحماً لتشكُّلِ قصائدهم. فصاروا "بيارتة" بما تعنيه الكلمة من تنوّع وانفتاح، لا بالمعنى المناطقي الضيق.
ومن رحم حروبها وُلِدَ جيل من الشعراء مطلع تسعينيات القرن الماضي عُرِف باسم "شعراء الحرب". فيما كان قد سبقهم إليها جيل عُرِف باسم "شعراء الجنوب" الذين تشكّلت تجربتهم في العصر الذهبي لكلية التربية في الجامعة اللبنانية ودار المعلمين، قبل أن تعصف بهم الحروب والأفكار وتُفرِّقهم أيدي سبأ.
ولأنها تكتب حريتها بالدم لا فقط بالحبر، فإن إبداع بيروت يكون أحياناً صرخةً، وأحياناً أخرى ترنيمةً. هي التي تعلمنا أن الجمال لا ينفصل عن الألم، وأن القصيدة قد تولد من رحم الرصاصة، وأن اللوحة قد ترسم بألوان الرماد. ففي سنوات الرمل والرصاص رسم رفيق شرف وأمين الباشا وحسين ماضي وسواهم حكايات مدينة عصية على الموت والخراب، وفيها اليوم عشرات المعارض التشكيلية لرسامين شباب من مختلف الاتجاهات الفنية يلوّنون سواد الأيام ببصيص الأمل.
كتابها دائماً في يمينها، تكتب به نصوص الحياة والموت في آنٍ معاً. فالإبداع هنا ليس ترفاً، بل هو ضرورة وجود، هو شكل من أشكال المقاومة والصمود.
بيروت ليست حجراً ولا بحراً. إنها حالة من الوعي بالوجود، وهي مدينة ملهمة بامتياز. هي ذلك الصوت العميق الذي يهمس في أذن كلِّ مبدع: "اكتب، ارسم، غنِّ.. فأنا لست مكانًا فحسب، بل أنا رحم لأحلامك وهزائمك. أنا الفاتنة التي لا تخاف على نفسها، فكيف تخاف أنت على قصيدتك؟".
هكذا تبقى بيروت المبدعة لوحةً لا تكتمل، وقصيدةً لا تُطوى، وسؤالاً لا جواب له، ونبعاً لا ينضب للإلهام، يروي عطش كل قادم إليها باحثاً عن شرارة تطلق روحه إلى فضاءات الحرية والجمال.
بيروت لم تمنحنا هواء الحرية فحسب، بل ألهمتنا سرّ القصيدة وسحرها الذي يختلط فيه الجمال بالألم. ترقص أحياناً كالطير المذبوح، وأحياناً أخرى كحورية خرجت لتوّها من قاع البحر، لكنها في فصولها كلها مدينة إبداع لا تقوى عليها الحروب والأزمات، ولا الإهمال والفساد:
خريف بيروت شتاء وصيفاً معاً
مثل امرأةٍ من رجس وطفولة
ربيعها نساء يتركن رعشةً في الأسمنت، طراوةً في الحجر
يؤخّرنَ كهولة الأمكنة
يخفّفنَ وطأة أبراج أعلى من أمنيات بنّائيها، قسوة حروب أطول من أعمار مقاتليها
يهبُّ حين مرورهنَّ ما يبدِّد الخراب والضجر
ما أجمل الصباح بين نهدين مبتسمين كتوأمين
ما أجمل الصباح في مدينةٍ كأنها أول العناق ونهاية الزعل
ما أجمل الحب
أمد يدي صوب وردةٍ في سور الغرباء
يعترضني ضريح جديد
ضع وردتك هنا
قتلوني قبل صياح العطر في عنق رضيعي
ضع وردتك هنا
لم أكتفِ من رائحة أهلي
ضع وردتك هنا
وامضِ غريباً يحب الغرباء
وامضِ غريباً يحب الفقراء
يا الله،
يا الله،
كيف تصلح الوردة ذاتها، للحب والجنائز، للحياة والردى، لميلاد الجلادين وأضرحة الشهداء؟
--
(*) أُلقِيَت في احتفالية "بيروت مدينة مبدعة في الأدب"، التي أُقيمت برعاية وزارة الثقافة اللبنانية، وبتنظيم من بلدية بيروت بالتعاون مع الجمعيات البيروتية، في قصر "الأونيسكو".