تشومسكي يبحث في كتابه عن فلاسفة آمنوا بأهمية الحرية

يستشهد الكاتب بقوة بمقولات فلاسفة كبار آمنوا بالحرية، وضحوا من أجلها، ومن هؤلاء: شيلنغ الذي قال " الإنسان ولد ليعمل وليس ليتأمل " ويقول " بداية ونهاية كل الفلسفة هي الحرية " ويخلص إلى القول إن جوهر الأنا البشرية "هو الحرية".

  •  كتاب
    كتاب "غريزة الحرية" لنعوم تشومسكي

    يؤمن المفكر نعوم تشومسكي بأن جميع البشر يولدون بغرائز فطرية رئيسيةتشكّل جزءاً من الطبيعة البشرية المشتركة بينهم، من هذه الغرائز، غريزة اللغة، وغريزة الحرية، ويرفض وجهة النظر القائلة بأن الإنسان هو ابن بيئته وثقافته، وأنه نتاج هذه الثقافة فقط، ويتساءل عن قناعته هذه، لأنه يرى أننا لا نستطيع أن ننكر وجود بنية فطرية في الدماغ تسمح لنا بتلقي المعلومات والخبرة من البيئة المحيطة بنا، فإن لم تكن هذه البنية موجودة ومحددة بيولوجيا منذ الولادة، لما استطعنا تلقي أي معلومات من البيئة، ويعتقد تشومسكي أننا لم نبلغ بعد المرحلة التي نستطيع فيها أن نفهم هذه البنية: فمثلاً، باللغة حققنا بعض التقدم مع دراساتنا عن القواعد التوليدية، لكننا لم ننجح بعد في ربط هذه القواعد بالبنى الدماغية. ففي علوم الاجتماع والسلوك والنفس والأنثروبولوجيا، يرى أن معرفتنا تكاد تكون معدومة، لذلك يقول إننا يجب أن نؤمن بوجود غريزة الحرية.

عمل تشومسكي على ربط تراث ديكارت بتراث باكونين بأقطاب الليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية: وتمثل أقطاب الفوضوية برتراند راسل و باكونين فيلسوفها الأشهر الذي نحت مصطلح غريزة الحرية، ومؤسسي الليبرالية الكلاسيكية كـــ روسو، هؤلاء الذين دافعوا عن مفهوم إنسانوي للطبيعة البشرية، وتستند فكرتهم إلى أن هناك طبيعة خلاقة فطرية، حرة وغنية، يجب إطلاقها كي يعيش البشر بسعادة. فمن مقدمة المترجم يقول: في صراعنا اليوم من أجل الحرية، يشكل الإيمان بأن كل الناس يتمتعون بغريزة الحرية، وبطاقات خلاّقة حرة وغنية وبأنهم يستحقون حياة أفضل من استعبادهم من قبل مجموعة طغاة كبار وصغار، محليين أو أجانب، منطلقا لصراعنا من أجل التحرر، وبنظر تشو مسكي لا يوجد خصوصيات في المعارك من أجل الحرية. جميع الناس مسؤولون عن تغيير المجتمع والعمل على رفع الظلم، ويقع على كاهل المثقفين دور خاص، إذ يتمتع هؤلاء بفرصة أكبر لرؤية الحقائق كما هي، ومكانة وحصانة نسبية تتيح لهم أن يجدوا جمهوراً يصغي إليهم، وتتجلى مسؤوليتهم في عرض الحقائق وفضح وكشف شبكة الأكاذيب السلطوية. ويهاجم تشو مسكي الكتابة الغامضة المتعالية ويرفض بشدة تيارات النسبوية، وما بعد الحداثة، والهجوم على العقل والعقلانية والعلم، التي انتشرت في السنوات الخمسين الأخيرة، بل ويراها متحالفة بالعمق مع السلطات القامعة.

الكتاب من وجهة نظري المتواضعة مهمّ وجميل و يذخر بالمعلومات، ففي فصل الحديث عن اللغة والحرية يقول الكاتب:

كل إنسان يملك عقلاً، وجوهره هو التفكير، وباستخدامه الخلاق للغة يعكس حرية التفكير والتعقل، وعندما نجد أن كائناً حياً آخر يستخدم اللغة بهذا الأسلوب الحر والخلاق سنعزو له عقلاً مشابهاً لعقلنا، فالخواص الجوهرية للغة وطريقة استخدامها تزودنا بالمعيار الرئيسي للحكم على امتلاك كائن حي آخر عقلاً بشرياً وقدرة بشرية على التفكير الحر والتعبير عن النفس، وعلى الحاجة البشرية الجوهرية ليكون حراً من القيود الخارجية للسلطات القامعة، ويرى روسو أنه على الرغم من أن ملكة الكلام طبيعة للبشر وملكة الكلام تجعلنا ننتج أفكاراً ( خصوصاً أفكاراً فطرية) بطريقة خاصة تحت ظروف معطاة من المثيرات الخارجية، ولكن أيضاً تزودنا بالقدرة على التفكير:

 "إذا احتاج البشر إلى الكلام ليتعلموا التفكير، فقد احتاجوا بشكل أكبر إلى معرفة كيف يفكرون لاكتشاف فن الكلام... لذا فالمرء يجد صعوبة في وضع تخمينات معقولة حول فن تواصل الأفكار وتأسيس تفاهم بين العقول، هذا الفن الجليل الذي نأي كثيراً عن أصوله...." ورأى أن الأفكار العامة تستطيع أن تأتي إلى العقل فقط عن طريق الكلمات. والفهم يلتقطها عن طريق الجمل"، هذا الواقع يمنع الحيوانات، المفتقرة للفكر من تشكيل الأفكار أو الوصول إلى الكمال الذي يعتمد عليها "حيث لا تستطيع الحيوانات أن تفهم الأساليب التي بواسطتها" يوسع النحويون أفكارهم ويعممون كلماتهم "أو بأن يطوروا الأساليب" للتعبير عن كل أفكار الإنسان، الأرقام، الكلمات المجردة. الأفعال، وكل أزمانها، حروف الجر. القواعد، ربط الجمل، التفكير، وكل تركيب منطق الخطاب. ويتساءل روسو أيهما أكثر ضراوة، المجتمع المؤسس مسبقاً لتشكيل اللغة، أم اختراع اللغة السابق لتأسيس المجتمع؟

يتطرق الكاتب في قسم الفلسفة قائلاً: يقول فيورباخ: "لقد فسر الفلاسفة العالم بأشكال مختلفة حتى الآن، إلا أن الهدف الحقيقي هو تغييره". تشومسكي يولي أهمية كبرى للمواطن المسؤول عن تغيير العالم، لكن يجب ألا يغيب عن البال التفسير والتحليل الذي يوفره الفيلسوف، والمفكر.

وفي فصل احتواء خطر الديمقراطية: النص الذي ألقي في غلاسكو في إسكتلندا في" مؤتمر غلاسكو لتقرير المصير والسلطة: مهمة العيش، مهمة السياسة ". يقول لقد مثلت الجماعات التحررية خلال الثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر أول انفجار للفكر الديمقراطي في التاريخ" حسب وصف المؤرخين، أثار ذلك التعبير عن غريزة الحرية على الفور مشكلة كيفية احتواء التهديد. ويخلص بهذا الفصل الزاخر بالأمثلة قائلاً: من الممكن أن تصبح غريزة الحرية خاملة، وهي كذلك في معظم الأحيان، بيد أنها ما تزال على قيد الحياة، ويقول لن يثبت إنكارنا لغريزة الحرية سوى أن البشر ظفرة وراثية مدمرة، وطريق مسدود من منظور تطور الكائنات الحية، أما إذا رعينا هذه الغريزة، بأن كانت حقيقية، قد يكون في إمكاننا التوصل إلى طرق للتعامل مع مآسي البشر المريعة ومشكلاتهم الهائلة.

يستشهد الكاتب بقوة بمقولات فلاسفة كبار آمنوا بالحرية، وضحوا من أجلها، ومن هؤلاء: شيلنغ الذي قال "الإنسان ولد ليعمل وليس ليتأمل" ويقول "بداية ونهاية كل الفلسفة هي الحرية" ويخلص إلى القول إن جوهر الأنا البشرية" هو الحرية" وأن أعلى كرامة تحققها يكمن بالضبط في أنها ترتكز بأكملها على الحرية البشرية ".

كذلك في القرن الثامن عشر كتب المفكر جان جاك روسو مبحثاً في اللامساوة وهو أحد أكبر وأكثر الأبحاث في الحرية والعبودية جدارة بالملاحظة، إذ يقول: إن جوهر الإنسان هو حريته ووعيه بهذه الحرية ويرى أن البرهان على أن الصراع من أجل الحرية خصيصة إنسانية جوهرية، وعلى أن الشعور بقيمة الحرية سيستمر ما دام المرء مستمتعاً بها في "المعجزات التي يجترحها الناس الأحرار للحفاظ على حريتهم في وجه القمع. وعلى المرء أن يكون حراً  كي يتعلم كيف يستخدم قواه بشكل حر ونافع.

ويقول يجب عدم ملء العقل بالمعرفة "من خارجه كالوعاء" بل يجب إيقاظه وإشعال فتيله " تحاكي المعرفة الفاكهة في نموها، فمهما كانت مساهمة العوامل الخارجية حنونة يبقى فعل الشجرة الداخلي هو المسبب الحقيقي لنضوج الفاكهة "

ديفيد هيوم: كلما أصبح المجتمع أكثر حرية، وتنوعاً، أصبحت مهمة إخضاعه أكثر تعقيداً، وبالتالي أكبر صعوبة هي تفكيك وكشف آليات التلقين.

تبحث فصول الكتاب الأربعة عن اللغة والحرية، وتطور الذكاء البشري والتنظيم الاجتماعي في الفصل الأول و عن الفوضوية وأصولها، وعن الاتحاد السوفياتي ضد الاشتراكية، وفي الفصل الثالث يتحدث عن العلم و العقلانية وعن الفلسفة والفلسفة العامة وفي الفضل الرابع والأخير يتحدث عن احتواء خطر الديمقراطية.

وجدت وأنا أقرأ هذا الكتاب أننا لا يمكن تلخيصه بأسطر أو كلمات فهو كثيف الأفكار، ومثير ويحترم القارئ لأنه يقدم استدلالات حقيقية تشعره أنه على مستوى ما يطمح إليه الكاتب، كيف لا يكون هذا، والمفكر الذي ننعم بفكره الآن هو تشومسكي، الفيلسوف وعالم اللسانيات والناشط الفوضوي الأميركي، الباحث في البنى الدماغية المعطاة بيولوجيا، التي تسمح لنا بتلقي اللغة وتعلمها، بدلاً من النظر إلى البيئة المحيطة بالكائن البشري، اشتهر تشو مسكي بنشاطه المعادي لسياسات الولايات المتحدة الأميركية، وعلى مدى خمسين عاماً استمر بنقد وفضح هذه السياسة ووحشتيها وتناقضها.

اخترنا لك