جبرا إبراهيم جبرا: جوهر الحياة الفلسطينية يقوم على محو آثار النكبة

   سيرة جبرا ليست كتابة عادية، بل هي بيان لهويته الفلسطينية، وبيان كاشف للحياة الجبلية الصعبة والوعرة التي عاشها وسط أبوين وأخوين عشقوا التعليم والآداب والفنون، لكن الظروف لم تجعلهم من أهل المحظوظية للظفر بالقراءات والتأويل والثقافة العالية.

  • "البئر الأولى" لجبرا إبراهيم جبرا

لا أدري كم سُررت بالسيرة الذاتية التي كتبها جبرا إبراهيم جبرا، أحد اهم كتاب السرد العربي في القصة القصيرة والرواية، لما فيها من المعاني الثقال، والحرص الشديد على تأبيد المكان الفلسطيني، وصفاً وتحديداً وعشقاً، كي لا تتمادى الذهنية الإسرائيلية في غيها وظنها أنها مالكة للمكان الفلسطيني بالقوة، فالافتكاك للمكان بالقوة الباطشة والدموية، ليس امتلاكاً، وثقافة الإخافة، مهما امتد زمنها، لا تبني حياة لائقة بالعمران الأصيل، كما لا أدري كم حزنت وأنا أنتهي من قراءة سيرة جبرا إبراهيم جبرا التي عنونها بعنوان دال هو "البئر الأولى"، لأنه، وهو في الستين من عمره، وبعد كتابات كثيرة في جُلّ أجناس الأدب والترجمة، كتب سيرة ذاتية من أجل توكيد هويته الفلسطينية، عبر المكان الذي عاش فيه وعشقه "بيت لحم"، وعبر المكان الذي سحره "القدس" حين جاء إليها طالباً للعلم.

   سُررت بهذه السيرة الذاتية لـ جبرا إبراهيم جبرا، لأنها كُتبت بذوب روحه، ورهافة إحساسه وجمال أسلوبه، وغنى معجمه اللغوي، وذاكرته الوقادة، وحرصه على مؤاخاة المكان، ووصف كل ما اشتمل عليه من عمران، بدءاً بالبيت والمدرسة والمعبد، إلى المؤسسات والشوارع والساحات والأسواق والحقول وورشات التصنيع وجهات العمل الأخرى، وحزنت لأن كتابة هذه السيرة جاءت تحت ضغط الكلام الرجيم الذي ود أصحابه أن يُخرجوا جبرا من هويته الوطنية، وهو الذي قال قولاً جهيراً: "لا أستطيع أن أبادل مكان طفولتي ولعبي مع أترابي، والمدرسة التي علمتني الأبجدية، والأرصفة التي جالستها.. بأي مكان آخر في الدنيا، أياً كانت أهمية هذا المكان، وأياً كانت شهرته. مكان طفولتي هو "بيت لحم"، ولا أحد في الدنيا قادر على تجاهل مكان طفولته، ولا أحد قادر على تغييبه لأنّ الطفولة، وما فيها من براءة وطهرانية وتكوين، عصية على المحو والإبدال".

   لقد ظنّ الظانون أنّ جبرا إبراهيم جبرا ليس فلسطينياً لأنه لا يجيد الكتابة المباشرة عن الأخبار والأحداث الفلسطينية، ولكن من قرأ جبرا في قصصه، سيجده الفلسطيني الذي عشق المكان، والمكان هو البيت، والمدرسة، والمعبد. لذلك، أكثر من وصف الحياة التي عاشها في "بيت لحم"، وما فيها من شطف، وقلة حيلة، وضيق ذات اليد، مثلما أكثر من وصف المكان وما فيه من غنى التفاصيل، وعراقة التاريخ، ووجوه الحضارة البادية في العطش إلى المعرفة، والإقبال على تعلم اللغات، وكسب المهارات في كل أنواع الفنون، والحرص على القيم النبيلة، والشد عليها غمراً بالذراعين، ومن يقرأ روايات جبرا إبراهيم جبرا في "صراخ في ليل طويل"، و"المرايا"، و"السفينة" و"البحث عن وليد مسعود" تمثيلاً لا حصراً، فسيجده الأديب الذي مجّد تاريخ بلاده، وصان مكانه، ودافع عن القيم التي رسختها العقائد السامية حين صوّر حال أبناء الشعب الفلسطيني وهم يواجهون قوة المحتل الإسرائيلي المستند إلى قوة الغرب الاستعمارية في كل شيء، والسكوت على جرائمه، ومدّه بأسباب القوة، والدفاع عنه في المنابر الدولية، وعدم تهديده بأي عقاب. والمؤلم، كما يقول جبرا إبراهيم جبرا في حواراته، أن أهل الظنة ظلوا طويلاً يلاحقونه بالتشويه والأقاويل حتى حين جاهر بصوابية نهج المقاومة، والتحاق بطله "وليد مسعود" بالقواعد الفدائية، وترك نعيم الدنيا لطالبيها، لأنّ نعيمه مغاير، فهو نعيم علوق بالمكان الفلسطيني الذي عاش فيه طفلاً، والذي كوّن فيه ثقافته وحدد أهدافه: شاباً آمن بأنّ جوهر الحياة الفلسطينية يقوم على محو آثار نكبة عام 1948. وهو أيضاً وقفة عز وكفى.

   في كتابه السيري (البئر الأولى) يتحدث جبرا إبراهيم جبرا عن طفولته الموحشة في بيت كثير الأولاد، وعن حالة العوز التي عرفها الوالدان، ولاسيما الأب الذي تنقل من عمل إلى عمل كيما يحقق بعضاً من أحلامه، وأحلام أولاده الذين ما أراد لهم أن يتقفوا دربه الذي امتلأ بالأشواك والحفر والأشراك منذ أن وعى على الدنيا، فهو أب أمي لم يعرف المدارس ولا الكتب، لكنه فرح بالمدارس وقدّرها، مثلما فرح بالكتب وقدّرها، وقد غدت حديث البيت، ومدار كل سؤال، فلا سؤال في البيت إلا عن المدارس والمعلمين والكتب والتحصيل والنجاح. لهذا كانت أمه هي العين الحارسة له، وهو  يمضي في الصباح إلى المدرسة، وهي العين الحارسة له، والذات الرقيبة عليه وهو يكتب واجباته المدرسية، وكان أخوه الكبير، غير الشقيق (مراد) جهة السؤال عنه في المدرسة من جهة، واليد المباركة التي تأتي بالكتب والمجلات وقصص الأطفال، وحكايات الأدب الشعبي إلى البيت من جهة أخرى، صحيح أنّ لـ(مراد) صندوقه الخاص الحاوي كتبه، لكن الصحيح أيضاً هو أنّ هذا الصندوق  بلا قفل، لذلك كان الغدير الذي روى جبرا إبراهيم جبرا شغفه بالقراءة غنماً للمعرفة التي ناف بها على غيره من أترابه في الصف، لقد بهرته كتب التراث العربي، وكتب الرحلات، والقصص المكتوبة بالإنكليزية للأطفال. لقد جذبته في البداية صور القصص الملونة، ثم جذبته اللغة الإنكليزية، حين سمع أمه تقول: بدأ جبرا يرطن باللسانين، وعنت بذلك اللسان العربي واللسان الإنكليزي، ويصحح جبرا فيقول: والحق أنني كنت أرطن بالسريانية أيضاً التي علمتني هي إياها.

   في سيرة جبرا (البئر الأولى)، يشعر المرء بقدرته المذهلة على وصف أحياء مدينة (بيت لحم) حين كانت المدينة في إهاب قرية كبيرة، يأتي إليها الناس من القرى الصغيرة، مثلما يأتيها الناس من جميع أنحاء الدنيا بصفتها المدينة التي وُلد فيها السيد المسيح، عليه السلام. لقد وصف البيوت وطرزها القديمة، وصف أبوابها ونوافذها وأدراجها الحجرية، ووصف (بيت لحم) وغناها العمراني الذي يتحدث عن عراقة البناء، فوصف خاناتها، والسرايا، والمدارس، والمساجد، والكنائس، والأسواق. ولبث طويلاً عند أعياد المدينة، ومناسباتها الكثيرة، وعن قدرة الناس الفقراء، الفقراء جداً، على استنبات الفرح في البيوت كما لو أنهم يستزرعونه، وينتظرون مآلاته. والمثال أو الشاهد على هذا كله هو بيت جبرا إبراهيم جبرا، فطبخ (الرز بالحليب) في بيتهم هو حدث للتباهي، لذلك، طلباً للتباهي، ينادي جبرا الطفل، ابن الأعوام الخمسة، رفاق لعبه، كي يأكلوا من (الرز بالحليب) الذي طبخته أمه، وجعلته في فيء الدار ليبرد، فيدخل الأولاد ويأكلون بنهم كل ما طبخته الأم. وحين عادت الأم وعلمت بما فعله جبرا، بكت، بكت فحسب. وحين يهدي رئيس الكشافة حذاءً جديداً إلى جبرا بسبب تفوقه، يغدو الأمر حدثاً بهيجاً في البيت، لكنه حدث بهيج لوقت محدود، لأن الأم تبيع الحذاء الجديد بعشرين قرشاً كي تشتري له حذاءً عتيقاً بقرشين، فلا يكون من ردة فعل له سوى البكاء والنحيب. وحين تضيق رحابة الحياة، يخرج أخوه (يوسف) من المدرسة، على رغم اجتهاده وتفوقه كي يعمل عند نجار. وعلى رغم تعبه الشديد فإنه يُمضي يومياً ساعة أو أكثر في قراءة الكتب التي لم يقرأها من قبل. ولأنّ الأم لا ترى من سبيل إلى تغيير حال الأسرة من الناحية المادية سوى القراءة والكتابة وملازمة المدرسة، تأخذ جبرا إلى المدرسة راجية أن يسجله مدير المدرسة طالباً في الصف الأول، لكن المدير يقول لها إن سنه صغيرة، ولها أن تأتي به في العام المقبل، فتبكي وترجوه أن يفحص جبرا، فهو يعرف القراءة وجدول الضرب، كما يعرف اللسان الإنكليزي، لكن مدير المدرسة لا يقبل، فتبكي مرة أخرى. أما كيف تعلم جبرا القراءة ومبادئ الحساب، فيقول إنه، في سن الرابعة، كان يختبئ قرب معلم الحي (الخوجة) وينصت إلى ما يقوله، وإلى ما يعلمه للتلاميذ الذين استطاع أهلوهم دفع بعض القروش له، وأنه كان يراجع ما حفظه من معلومات اكتسبها مع تلاميذ (الخوجة) أنفسهم، فيضيف إليها ما فاته أو ما سها عنه. وإنه تعلم جملاً كثيرة باللغة الإنكليزية سماعاً في شوارع (بيت لحم) وساحاتها وأسواقها.

   في هذه السيرة "البئر الأولى" أيضاً غنى سوسيولوجي مهم، لأنّ جبرا يتحدث عن الأعياد، والطقوس الدينية، وعن العادات والتقاليد، ومنها الأفراح والأتراح. صحيح أنها مكتوبة بعيني طفل، لكنها هي العادات والتقاليد التي يعيشها المجتمع من دون تحوير أو تزويق، وهي أيضاً المشترك بين الناس الذين يعيشون في مدينة "بيت لحم" على اختلاف ثقافاتهم ومذاهبهم وما ورثوه من أجدادهم من سلوك يعبر عن وحدة اجتماعية وثقافية واقتصادية خلاقة، وهي جلية في الإقبال على التعليم ومعرفة اللغات الأجنبية كون مدينة "بيت لحم" بلدة من أهم بلدات فلسطين السياحية من الناحية الدينية، لهذا نشأت مراكز تعليم اللغات، والأندية الاجتماعية التي كانت الثقافة جزءاً أصيلاً من أنشطتها القائمة على قيم الحرية، والتسامح، والاعتزاز بالهوية الوطنية.

   وبعدُ، لم أتحدث، هنا عن سيرة جبرا إبراهيم جبرا "البئر الأولى" التي طُبعت عدة مرات، إلا من أجل التوكيد أن جبرا أصيل في جذوره التلحمية، وأصيل في هويته الفلسطينية، وأصيل في الكتابة عن تطلعات شعبه الفلسطيني وأحلامه في محو النكبة (عام 1948) وما جرته من تغيرات وتحولات، وأنه لم يكن برجوازياً أبدا، لأن هذه الصفة أُريدَ لها أن تكون تهمة أو  لعنة أو سبّة، وإنما كان فقيراً جداً، أبوه ينتقل من مهنة إلى مهنة، وأمه سيدة بيت، وما كان في البيت من مكتبة سوى صندوق صغير لأخويه (مراد ويوسف) يحتوي على بعض المجلات والكتب، وأنه عاش حافياً أعواماً من طفولته، وأن والده كان يصنع له أحذية من إطارات السيارة الخربة، وأن والده كان إسكافياً، وبقيت لديه عدة الإسكافي في صندوق خاص به، وأنه جاع مثل أطفال (بيت لحم) في بدايات القرن العشرين، وأنه أراد ترك المدرسة مرات، على رغم تفوقه، ليلحق بأخويه (مراد ويوسف) فيصير عاملاً مثلهما، لكن القدر، من جهة، وأباه وأخويه وأمه، من جهة أخرى، ألزموه كي يتابع تحصيله العلمي الذي ستقوده شهاداته إلى إنكلترا ليدرس الأدب الإنكليزي هناك. وحين تخرج في الجامعات الإنكليزية التحق بخاله اللاجئ الفلسطيني الذي سكن بغداد، كي يدرّس اللغة الإنكليزية للطلبة العراقيين في دار المعلمين العليا، وكان من بينهم الشاعر بدر شاكر السياب.

   سيرة جبرا في كتابه "البئر الأولى" ليست كتابة عادية، بل هي كتابة اضطرته إليها قولات الغافلين عن حياته، كي يكتبها كبيان لهويته الفلسطينية، وبيان كاشف للحياة الجبلية الصعبة والوعرة التي عاشها وسط أبوين وأخوين عشقوا التعليم والآداب والفنون، لكن الظروف لم تجعلهم من أهل المحظوظية للظفر بالقراءات والتأويل والثقافة العالية. وعدا عما في الكتاب من معلومات وأسرار خيفة، فإن أسلوب الكتاب تطريب أدبي يدلل على مكنة جبرا إبراهيم جبرا في معرفة الأدب، ومكنة في معرفة أسرار السيرة الذاتية لبيان ما فيها من بقع أرجوانية دالة على المعاني السامية.