حمائم القلوب والبيوت في اليمن
ما رمزية الحمام في الأغنية الشعبية اليمنية وكيف ارتبطت بالحب والفقدان؟
من أبعاد الثقافة الشعبية التي يشترك فيها الموروث الإنساني، الاعتناء بتربية طيور الحمام، والإحالة الرمزية بها إلى قيم الحب والسلام، على اختلاف خصوصية هذا البعد من مجتمعٍ إلى آخر اتساقاً مع ثقافة كل شعب من الشعوب.
وفي سياق المشترك الثقافي الإنساني الذي يمثله هذا البعد، يأتي حضوره في النسق الغنائي من الثقافة الشعبية في اليمن، كما تأتي خصوصيته، المستندة إلى هوية هذا البلد الاجتماعية والثقافية والحضارية.
حمائم الدور
من صور هذا المشترك الثقافي، بصيغته الإنسانية العامة، في الأغنية اليمنية، تلك المظاهر الجمالية المتشكلة من دوران الحمام على شرفات المنازل، كما في خطاب أغنية العُرس الموجّه إلى العروس، على لسان الفنانة، منى علي، [1]:
دارْ ابوكْ معمورْ بياجورْ
والحمام عليه تدورْ
ومن ذلك، ما يتعلق بتجارب الحب، كاضطلاع الحمام بمهمة مرسال الأحبة، كما في أغنية الفنان، أحمد بن أحمد قاسم، "يا حمام الشوق" [2]:
آه يا حمام الشّوق أترجّاكْ
تحملْ لهْ سلامْ تسْألُهْ عنّا
تشوْفُهْ كيفْ حالهْ يا حمامْ
ويأتي في السياق نفسه إسقاط الإنسان مشاعر حزنه المتوالد من فراق أحبّته على الحمام؛ تأويلاً لسياق من التشابه بينهما، من مثل ما تضمّنتْه الأغنية الصنعانية "حُميِّمة" [3]:
حُمَيِّمهْ باتَتْ تردّدْ ألحان
تَبكي فَتُبكيني بِدَمع شنّان
حمائم القلوب
يتجلى ثراء الرمزية الدلالية للحمام في الثقافة الشعبية في اليمن، من خلال الإحالة به على المحبوبة، كما في أغنية "شواطئ عدن"، للفنان أبو بكر سالم بلفقيه [4]:
في شواطي عدنْ حامتْ بقربي حمامةْ
ذوّبتْني وخلّتْني أسير ابْتسامةْ
فالحمامة الحقيقية - التي اعتادت أن تكون هي المستهدفة بالاصطياد - صارت هي القائمة بهذا الفعل، بعد أن تحوّلت إلى رمز لتلك الفتاة، التي فتنت قلب المحب، الذي انجذب إليها، فشرعا في اغتراف السعادة من حبهما الوليد.
وعلى ذلك، لم تكن هذه السعادة هي ما آلت إليه تجربة الحب في أغنية "يا حمامي ما دهاك"؛ لارتباطها بقصة وجدانية مؤلمة. إذ تشير تلك القصة إلى أن الشاعر أحمد بن عبد الرحمن الآنسي - كاتب كلمات هذه الأغنية - عاش تجربة حب مع فتاة فائقة الجمال.
كانت تلك المحبوبة مغنية، ذات صوت رخيم، يسحر كل من يلامس مسامعه. دعاها أحد الأمراء إلى الغناء في مناسبة زفاف، فنصحها الحبيب الشاعر ألّا تقبل الدعوة؛ لما يعرفه عن ذاك الأمير من هوس بالجميلات. لكنها لم تعمل بنصيحته، فلبّت الدعوة، وأشعلت المناسبة غناءً، فأطربت كل القلوب فيها. كما وقعت في قلب الأمير، فعرض عليها الزواج، لكنها رفضت، اختطفها، محاولاً إجبارها، فعاندتْه، لينتهي الأمر بإشهاره خنجره (جنبيته) موجهاً إليها طعنة قاتلة. بعدها صعق نبأ المأساة ذاك الحبيب الشاعر، فرثاها بقصيدة هذه الأغنية، التي يبدأها متسائلاً:
يا حمَامِيْ أمَانَةْ ما دَهَاكْ
طِرْت مِن بُقْعَتكْ حيث الأمانْ
سُقْتْ نفسَكْ إلى بحر الهلاكْ
ما تخاف منْ صروفات الزّمانْ
اتخذ من الحمام رمزاً لمحبوبته المغدورة، التي يخاطبها بأسى وحزن، متسائلاً عما دفعها إلى مفارقة الأمان، الذي كان يتقاسمه وإيّاها مع كثير من معجبيها متحدثاً عن ماهية ذاك الأمان، وكيف كانت فيه:
كنت مُبرد ومُتنفّس هناكْ
كل ساعة تخطُرْ في مكانْ
وانت تِسْجَع ويطْربْنا غُناكْ
وافترقنا وما قدْ لك ثمانْ
لقد كان ذاك الأمان ملتقيات غنائية، تتحرك فيها بحرية مطلقة، ساحرة بغنائها الحبيب والمعجبين، حتى تمزق قلبه بمأساة رحيلها، التي حلّت بهم، بعد مرور أقل من أيام ثمانية على آخر مرة كانت معهم فيها، أعقبها التوجّع بخيانة الدهر لها، واستدراجها من بينهم إلى حتفها:
خانك الدهر يا سيْد الحمامْ
وانزلك من محلّك والمقرْ
قدْ سقاكْ ــ لا سقي ــ كاس الحِمامْ
هكذا الدهرُ حُكْمهْ في البشرْ
تلوح هنا جمالية الصياغة التعبيرية، في استخدام تقنية الجناس في كلمة (الحمام)، واستثمار المتاح فيها من انقسام الدلالة على معنيين مختلفين؛ تبعاً لنوعية حركة صوت (الحاء) فيها، فإن حُرِّكَتْ بالفتحة دلت على (الحَمام: المحبوبة)، وإن حُرِّكَتْ بالكسرة، دلت على مصير الحبيبة، الذي انتهت إليه (الحِمام: الموت). ذاك المصير، الذي أحال الشاعر، على ما سبقه من موقف نصيحته لها:
قد نهيتكْ وما تمّ الكلامْ
لا حذرْ يا حماميْ من قدرْ
أوقعكْ قل فهمكْ في شباكْ
المنايا فكمْ ذا الامتحانْ
يخاطب طيفها، محترساً ألّا يُفهم - من إشارته إلى تلك النصيحة - أيُّ معنى من معاني اللوم أو العتاب. إذ يلتمس لها العذر، تارة بتأكيد حتمية القدر الذي لا مفر منه، وتارة بمحدودية اعتراكها مع الحياة؛ بما يكفي لأن تستشرف مثل هذا الخطر فتتجنبه. ومن حرصه التبريري هذا، يعود إلى قلب المصيَدة، التي وقعت فيها حمامته، مستمراً في مخاطبته إيّاها:
شلّك البازْ مِنْ بين اخْوتكْ
حينْ عرفْ أنْ قدْ هيْ ساعتهْ
لو سمعْ يا حماميْ نغمتكْ
كان شا يفْلتكْ من قبضتهْ
يتجلى هنا اتساقٌ فني بين رمزية الحمامة إلى الفتاة، ورمزية الباز (الصقر الجارح) إلى مَن اختطفها. كما يتخلل هذا السياق استغراب الشاعر من المفارقة بين جمال صوتها، الذي يفتّت الصخر فيذوب رقةً لها، وما تعرّضت له. ويميل إلى احتمال أن الجاني لم يسمع ذاك الصوت، وإلّا لكان تراجع عن جُرمه. وتكمن في هذا الاحتمال محاولة استيعاب ما حدث، ليس لأن الجاني لم يسمع غناءها، ولكن لأن الحبيب غير مصدّق، أن هناك قلباً، يمكن أن يقترف في حقها كل ذلك:
غير أجرى دمكْ من مقلتكْ
أسأل الله يعمي مُقلتهْ
قادر الله يهلكْ من أذاكْ
واحرمكْ طيبْ عيشكْ ثم خانْ
لقد تمادى الباز في محاولته النيل منها، حتى تمكن من إلحاق الأذى بها، مدمراً ذاتها المسحوقة بخيانته، وصولاً إلى إزهاقه روحها:
خضّب الكفّ منّكْ بالدّما
ونشَرْ طوْق جيْدكْ في يديهْ
بعد أن امتزجت دموع القهر والدم في مقلتيها، تشكّلت هيئة مأساوية، لفتاة قتيلة، ترك دمُها نقوشاً على كفٍّ، لم يحسم السياق تحديدها: أهي كف الضحية؟ أم كف الجلاد؟ أم هما معاً: كف الضحية وهي تحاول ملامسة جرحها النازف، مدافعة عن نفسها انتصاراً للحياة، وكف الجلاد وهو يُنجز جُرْمه، ويلطخ كفه بدمها؟ بعد أن سبق أن قبض بكفه تلك على عنق الفتاة، حتى انقطع عقد جيدها، وتناثرت جواهره على كفه، التي أسرفت في تعذيبها حتى لفظت أنفاسها الأخيرة:
عذّبكْ عذّبهْ رب السما
وانتصف لك ووراني عليهْ
لقد تمزّق الحبيب الشاعر بمأساة رحيل الحبيبة، التي كان ينوي الزواج منها. كما تمزق قهراً بحاله، التي لا تقوى على الثأر لها من الجلاد، فيدعو الله مخلصاً أن ينزل به ما يستحقه من عقاب، مسدلاً ستار النهاية، على حواره مع قلبه، الذي اطمأن إلى وفائه لها واستحالة أن ينساها.
[1] الياجور: طوب الطين المحروقة للبناء.
[2] كتب كلمات هذه الأغنية الشاعر فريد بركات، ولحنها وغناها الفنان أحمد بن أحمد قاسم، كما غنّتها الفنانة فتحية الصغيرة.
[3] كلمات الشاعر محمد بن عبد الله شرف الدين، ألحان وغناء الفنان محمد حمود الحارثي. كما غناها كثير من الفنانين، منهم: محمد نصار، أحمد الحبيشي، فؤاد الكبسي، حمود السمة.
[4] هذه الأغنية، من الغناء الحضرمي العدني، للفنان أبو بكر سالم بلفقيه: كلماتٍ، وألحاناً، وغناءً.