حنينٌ لا يسقط بالتقادم

فليعلم الطغاة، من "تل أبيب" إلى واشنطن، أنّ التهجير ليس نهاية الحكاية، بل وقودها. وأنّ كل خيمة لجوء تُغرس في أرضٍ بعيدة، تُنبت في الذاكرة جذراً أعمق، وعهداً جديداً لا يُنسى.

  • لوحة
    لوحة "المدينة الأم" - سليمان منصور - 2009

هل تذكرون غريباً عادَه شجن؟ هكذا تساءل ابن زيدون قبل قرون، ففتح بكلماته جرحاً لا يندمل، يشبه تماماً جرح الفلسطيني، الذي ما عاد يعرف للطمأنينة معنى، ولا للوطن طريقاً، سوى في ذاكرته المثقوبة بالتواريخ والمجازر.

كلّ من ذاق الغربة عن الأحباب يوجعه الحنين، فكيف بمن غُرّب عن وطنه قسراً، وطُرد من أرضه تحت لهيب النار، ووجد نفسه بلا أهل ولا سكن، يحمل مفتاحاً صدئاً وصورة بيت مهدوم، يردّد أسماء القرى كما تُردّد الأمهات أسماء الشهداء؟

إنها غربة لا تشبه غربتنا عن أيام الصبا، ولا عن وجوه الأصدقاء الذين ضلّوا الطريق إلينا. بل هي غربة شعب بأكمله، يلاحقه الطرد والنفي جيلاً بعد جيل، بدءاً من نكبة 1948، مروراً بهزيمة 1967، وصولاً إلى تهجير الداخل و"تقنين" الطرد في كلّ عدوان. 

وما العدوان على غزة إلا فصل من كتاب النفي المفتوح، وما التلويح الأميركي - الصهيوني بفتح باب "التهجير الطوعي" إلا إعادة إنتاج لمأساة مُزمنة.

الفلسطيني لا يحمل حقيبة سفر، بل يحمل التاريخ كلّه على كتفيه. يعيش في غربة اضطرارية لم يخترها، ولكنها اختارته ليكون شاهداً حيّاً على أكبر سرقة في التاريخ: سرقة وطن، وسرقة مستقبل، وسرقة ذاكرة. وها هو اليوم، يُخيَّر من جديد بين موتٍ تحت القصف، أو موتٍ بطيء في خيام اللجوء.

نعم، لقد تساءل ابن زيدون عن قومٍ كانوا لا يحفظون العهد، ونحن بدورنا نتساءل: أيّ عهد بقي في هذا العالم لم يُدَس؟ أية عدالة تُرجى ممن يرى في تهجير شعب وسيلة لإراحة مستوطن؟ أي قانون إنساني يقبل أن يُعامل الفلسطيني كخطرٍ ديموغرافي يجب طرده، لا كإنسان له الحقّ في الأرض والماء والكرامة؟

الغربة ليست فقط غياب الأوطان، بل أن يُنسى وجعك، وتُطمس حكايتك، وتُختصر قضيتك في معونات أو تصريحات سياسية لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

لكن الفلسطيني، رغم ذلك، لا يُشبه غرباء العصر الحديث… لأنه لم ينسَ، ولم يُساوم، ولم يُبدّل المفتاح بالمنفى، ولا الزيتون بجوازات مؤقتة.

في قلب كل فلسطيني ابن زيدون جديد، يئن تحت ليلٍ طويل، ويهمس:

فبات يُنشدها مما جنى الزمنُ… بَمْ التعَلُّل لا أهلٌ ولا وطنُ

ومع ذلك، سيبقى هذا الفلسطيني، كما القصيدة، لا يسقط بالتقادم. 

فليعلم الطغاة، من "تل أبيب" إلى واشنطن، أنّ التهجير ليس نهاية الحكاية، بل وقودها. وأنّ كل خيمة لجوء تُغرس في أرضٍ بعيدة، تُنبت في الذاكرة جذراً أعمق، وعهداً جديداً لا يُنسى.

لن تكون غزة نكبة ثانية، ولن يمرّ مشروع "الترانسفير" الجديد كما مرّت مؤامرات الأمس. فهذا الشعب الذي ذاق مرارة اللجوء، لن يُذعن لقدرٍ كُتب في أروقة البيت الأبيض، ولا لمصيرٍ خطّه المستوطن ببندقيته.

هذا شعبٌ لا ينسى وطنه، لأنّ الوطن عنده ليس جغرافيا، بل عقيدة. لا يُبادل الأرض بالخلاص، ولا الحرية بكسرة خبز. وليعلم كلّ من يراهن على ضعف الفلسطيني، أن من لم ينكسر في دير ياسين، ولا في تل الزعتر، ولا تحت قصف دبابات 1982، لن يرضخ اليوم..

فهو، وإن غاب عن تراب وطنه، يكتبه في قلبه كلّ يوم كقصيدة لا تموت، وينقشه في وجدان الأمة كحقّ لا يسقط بالتقادم.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك