خليل النعيمي العائد إلى سوريا من رحلة منفى لا تُحتمل!
بعد نحو 50 عاماً في المنفى، يعود الأديب والطبيب خليل النعيمي إلى سوريا. كيف يرى سوريا اليوم؟ ومن هو هذا الأديب الرحّالة؟
باعتباره جرّاحاً ماهراً في مستشفيات باريس، قبل أن يكون روائياً ورحّالة، يبدو أنّ الأمر يحتاج إلى تشريح موضعي نظراً للحالة الاستثنائية التي عاشها منفياً نحو 50 عاماً.
نقصد هنا خليل النعيمي الذي عاد أخيراً من منفاه الباريسي إلى دمشق في زيارة استكشافية للبلاد التي حرمته طويلاً من أن يطأ ترابها بمفاعيل إضبارة أمنية ضخمة تضعه في موقع اتهامات معادية لا تحصى!
هكذا اكتفى صاحب "القطيعة" بأن يحوم حول البلاد من دون أن يتمكّن من رؤيتها مباشرة. كنت التقيه في القاهرة أو باريس أو أبو ظبي كتعويض عن خسائر الغياب، إلا أنني لم أحلم يوماً بأن نلتقي في دمشق.
ها هو الرحّالة الذي زار معظم أنحاء الكوكب يحطّ رحاله في البلاد التي حرم من استنشاق هوائها نصف قرن كامل. نصّ عبثي غير قابل للاحتمال. أن تزور سمرقند وبخارى وتشيلي والصين واليابان وعشرات البلاد الأخرى، وألا تتمكّن من زيارة مسقط رأسك. معجزة متأخرة حدثت حقاً.
فجأة هاتفني بأنه في دمشق. خرجت مهرولاً نحو مقهى "الروضة" كمن يحلم. كنت بحاجة للبكاء في ذلك العناق المستحيل. أخيراً خليل النعيمي وشريكة عمره سلوى النعيمي في البلاد.
إنه لقاء من صُنع الآلهة، وفانتازيا تختزل نصف قرن من العذابات. كان صاحب "مديح الهرب" يتأبط دفتراً اعتاد أن يكتب فيه ملاحظاته ومشاهداته عن زياراته للأمكنة، وها هو يدوّن أول انطباعاته عن دمشق، "شيء سديمي يخيفني. شيء لا أدركه هو الذي يعذّبني في دمشق، الآن. لماذا عدت؟ أنا لم أعد أريد أن أكذب على نفسي. لم أعد أريد أن أمثّل دوراً لا أتقنه. الحياة أهم من ذلك، وأكبر من كل الأفانين والفبركات. يكفي. دمشق، اليوم، هي علامة الاهتراء. اهتراء الكائن والمكان. لا جدوى من التظاهر بعدم الفهم والإدراك.. الحقيقة أهم من التاريخ. وطالما أننا لا نزال نتجاهلها فإننا لن نصل إلى حيث نريد".
أسبوعان في دمشق، وبوصلة مهتزّة نحو الأمكنة التي غاب عنها نحو نصف قرن: مقهى الهافانا، ومقهى الروضة، وساحة المرجة، والجامع الأموي، وشوارع لا يعرفها، إذ أطاحت الشيخوخة بالاثنين معاً تحت ثقل الذكريات وأسماء الموتى.
في مدينته الحسكة التي زارها خطفاً، كان المشهد أكثر بؤساً، وكأنّ زوابع العجاج القديم التي لطّخت طفولته هناك لم تتوقّف يوماً عن الهبوب. لعله أطول منفى عاشه الروائي السوري في باريس مطروداً من "جنّة البلاد". 54 عاماً؟ إنه رقم قياسي لا يحصل إلا في الروايات!
ففي مطلع سبعينيات القرن المنصرم اضطر إلى الهرب بعد سجل حافل بالمضايقات الأمنية. صودر ديوانه الأول، وقادته رواية "الرجل الذي يأكل نفسه" إلى غرف التحقيق الأمني.
هكذا طوى تاريخه الشخصي في دراسة الطب والفلسفة في جامعة دمشق ليستكمله في باريس طبيباً جرّاحاً وروائياً يرمم الغياب باستعادة أمكنته الأولى مثل طائر غريب، والعيش تحت عباءة "حق اللاعودة"، وفقاً لما تقوله الروائية، سلوى النعيمي.
عجائب المخلوقات
-
خليل النعيمي في دمشق بعد عقود من المنفى
في فحص نصوصه سنكتشف بأن خليل النعيمي لم يتخلّ عن بداوته الأولى يوماً! فهو ما زال يتفيأ دفء شمس صحراء الجزيرة السورية حتى لو كان على بعد آلاف الأميال، يتأمل عجائب المخلوقات في أعلى قمم جبال الأنديز. رحّالة من طراز خاص، خبر جغرافيات مختلفة، متشمماً بأنفه البدوي رائحة زعفران الكوكب، لتتسلّل مفردات بدوية إلى معجم اللحظة الراهنة، منحوتة بغرابة في تفسير متاهة الكائن بعيداً عن المشيمة الأم. هذا "عوليس" آخر، يستحضر دمشق وشمسها وبساتينها، كما لو أنها إيثاكا مستحيلة وقصيّة، فكلما اجتاز مسافة أبعد بين القارات، تبزغ شمس البيئة الأولى. سيهتف، مستعيراً صوت أبيه، من عمق الصحراء "أشعلوا النار. أشعلوا النار"، مجابهاً وقائع الظلمة ووحشة الأمكنة وقسوة الحنين. كأنه لم يغادر حناجر الرعاة، واكتشافات الأقدام الحافية والخشنة، وهي تجوس طبقات السراب: "صرتُ أحبُّ أن أضيع في المتاهات الكونية التي تجعل الكائن لا يشعر إلا بضآلته. تجرّده من أسطورته المحليّة".
مثل هذا الاعتراف سنجده في متن كتابه "الصقر على الصبّار" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت). هذه المرّة، يستعير أسطورة مكسيكية في استعادة مشاهداته في بلدان أميركا اللاتينية: التشيلي، والأرجنتين، والمكسيك، والبيرو "تلك التي تظللها جبال الأنديز بسحرها وغموضها وهوائها".
وسوف تحضر أطياف نيرودا وبورخيس وساراماغو وبيسوا كجزء من الأسطورة المرتحلة: "أمشي بأبهة، متمتعاً بروائح الكون، وبمشاهده الحسيّة. أكتشف عالماً آخر لا علاقة له بالمبادئ العتيقة، ولا بالنظريات البائسة التي حشونا بها، لا يوحي بالإحباط، ولا يعيق المشاعر عن الانفلات"، يقول.
اكتشاف هذا البهاء الروحي في متاحف سانتياغو أو مقاهي شوارع بوينس آيرس، أو أساطير الأزتيك، يمنح الغريب طمأنينة، لطالما افتقدها في بلدانٍ أخرى، فههنا تتفتّح "جغرافيا الأحاسيس" على مهل.
في الجزء الجنوبي من الكوكب الذي لا يشبه شماله، سيرتطم الروائي الجوّال بحياة ملطّخة بالأساطير والحضارات القديمة، وروعة البشر المنسيين، وكيف يخلع العابر جلده القديم ليكتشف كينونته على نحوٍ آخر، إلى حدّ أن يقول متحسّراً "بيوتنا تكاد تكون أضرحة، وهي هنا جِنان".
ما كتبه خليل النعيمي من قبل، في "مخيّلة الأمكنة"، و"الطريق إلى قونية"، و"قراءة العالم" ينطوي على روح متوثّبة في اكتشاف الآخر، وتفكيك ألغاز الأمكنة والبشر والموجودات، بسرديات تعتني بقدرة الحواس على تخزين مشهديات الألفة البشرية، وعماء ما كنّا فيه قبل أن تطأ أقدامنا أرض الآخرين. إذ لا يستقيم وجود الكائن ولا يغدو لحياته معنى إلا بالسفر لترميم تاريخه الشخصيّ أولاً، وذلك بالقطيعة مع الذات ومعطياتها القديمة التي ستبدو مهترئة "ما أن يتجاوز عتبة بابه".
لا مسافة مرئية هنا، بين تطلّعات الروائي وسرديات الرحّالة، ما يجمعهما في فضاءٍ واحد، روح ذلك البدوي الذي غادر ظعن القبيلة ذات يومٍ بعيد، من دون أن ينسى وشومها، وطعم حليبها، ونداءات ليالي صحرائها المُقمرة.
مرويات الصحراء
-
غلاف رواية "زهر القطن" لخليل النعيمي الصادرة عن (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) في بيروت
لا يخترع خليل النعيمي الصحراء كمتخيّل سردي بقدر ما يعيشها عن كثب، فهي تجربة حياة في المقام الأول، إذ تتقاطع وتفترق عمّا هو سيروي، لتتكشّف عن مرئيات تتناوبها خشونة العيش من جهةٍ، وشفافية الأرواح، من جهةٍ ثانية.
في أحدث رواياته بعنوان "زهر القطن" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، يرمّم الروائي السوري ما غاب عن أعماله السابقة من مرويات بدوية، مثل "القطيعة"، و"مديح الهرب"، و"قصّاص الأثر".
كأنّ الصحراء موشور بظلال لا تحصى، تبعاً لجهة ترحال العائلة، والتيه في سراب الأمكنة. ذلك أن الحياة، وفق ما يقول الراوي "محسوبة بالمسافات وليس بالساعات". رحلة يقطعها أب وطفل في صحراء لا نهائية يؤثثها الصمت والريبة والخذلان. يحلم الطفل بأن يذهب إلى المدرسة كي يتعلّم الحكي، وبعضاً من حكمة الأب، والألغاز المجهولة. هكذا يقطعان المسافة نحو الشمال بدلاً من السير إلى الجنوب، الشمال بوصفه موقع الدهشة، ومهرجان الألوان، وذخيرة الكلام. سيطارد الطفل طيف طفلة شاركته اللعب يوماً، إذ كانت بالنسبة إليه، الارتطام الأول بمعنى الغريزة وعمل الحواس، لكنها ستنأى بعيداً عنه أمام أهوال الرحلة، والمحسوسات الأخرى التي ستصادفه بصحبة الأب المحزون، لولا تلك المرأة التي كانت ببياض زهر القطن، البياض الذي سيتخذ تلوينات مختلفة يقترحها الجسد، ثم الطبيعة، و"حليب الصمت".
هكذا بنى خليل النعيمي سردياته المتعددة باستعارة ذهبية من أبيه "الكلام بلا جوهر يغدو تبناً ولا يستحق، في هذه الحالة، سوى أن يكون علفاً للبهائم".