خوارزميات التفاهة
لن يأتي التغيير كتحديث برمجي يصلح الخوارزميات بين ليلة وضحاها. المعركة الحاسمة تبدأ من ضميرنا الجماعي: برفضنا أن نكون حطباً لنار السطحية، وبمقاطعة المحتوى الفارغ حتى يجف عوده.
-
عن الانترنت
استكمالاً لمقالة الأسبوع الماضي بعنوان "هبل السوشال ميديا"، نتابع هنا قراءة واقع الحال في زمن العصر الرقمي ودور الخوارزميات المبرمجة على إبراز كل ما هو تافه ومبتذل، وحجب كل ما هو جاد وعميق، فضلاً عن منع أي شيء له علاقة بقضايا الشعوب المظلومة والمضطهدة تحت حجج وذرائع واهية على شاكلة "انتهاك" سياسة هذه المنصة أو تلك، وكلها سياسات تخدم مصالح السلطات المهيمنة والشركات العملاقة.
في قلب هذا العصر الرقمي، تعلو صرخة مكتومة تتحدث باسم الجمال: كيف تحوّلت الآلات إلى سجّان للإبداع، تكمّم أفواه الشعر وتخنق لوحات الخلود بسحب التفاهة؟ لماذا يغيب الصوت الجوهري خلف زعيق المهرجين، ويدفن الفكر النيّر في زوايا النسيان بينما يصول الهش ويجول؟ إنها معادلة العصر المعقدة، تنغرز جذورها في أعماق ثلاثة لا تغتفر.
لقد صممت تلك العقول الإلكترونية لاصطياد اللحظة العابرة، لا لاحتضان الزمن التأملي. هي تعشق وميض الثواني الذهبية، وتلهث وراء نبضات التفاعل الفوري، بينما تحتفي بالضحكة السريعة أكثر من الصمت الذي يسبق البكاء أمام قصيدة عظيمة.
المنصات تتنفس الربح، والربح يقاس بعدد المرات التي تسبح فيها عيناك في بحر الشاشة. كيف لتحفة فنية تحتاج إلى سكون الليل كي تخترق الروح أن تنافس مقطعاً هزلياً يختطف ابتسامتك في ومضة؟ الحقيقة المرة: السهل المبتذل يدرّ ذهباً، أما العميق فيحتاج إلى صبر لا تحتمله دقات ساعة الربح المتعجلة.
وتسير الخوارزميات كالأعمى في متحف الجواهر، تلمس القشور فتحسبها كنوزاً. هي تتعرف على أنماط النقر والتفاعل، لا على عمق الفكرة ولا رهافة التعبير. مشهد تافه لطفل يهان يتحوّل إلى عاصفة رقمية، بينما قصيدة تذيب الجليد في القلوب وتلامس أسئلة الوجود تذوي في الظل. لقد حوّلت معادلة "الكثرة تساوي الجودة" الساحة الثقافية إلى سوق صاخب يقدس الصراخ ويقتل الهمس، فيختلط الزئير بالحكمة فلا تعرف أيهما يعلو.
وللإبداع الجاد محنته الخاصة: صناعة التفاهة لا تتطلب سوى هاتف وافتقار للذوق، بينما يحتاج العمل الأصيل إلى عمر من التجريب وموهبة تصقل بالعرق ورؤية تستخرج من أعماق التجارب الإنسانية.
الخوارزميات – كمسافر جائع في محطة قطار – تتجه فطرياً نحو الوجبة السريعة المشبعة بالدهون الفارغة، لا نحو الوليمة الفكرية التي تحتاج ساعات لتنضج على نار البصيرة. وهنا، يلتقط المفكر، آلان دونو، الخيط في تحليله لنظام التفاهة، مشيراً إلى نجاح المنصات في "ترميز التافهين"، وتحويلهم إلى نجوم تلمع في سماء السطحية بينما تدفن القيم الحقيقية للفن والفكر تحت ركام الضجيج.
لكن اليأس ليس قدراً محتوماً. ثمة بذور صغيرة تنبت في زوايا التربة الرقمية: منصات مثل "كورا"(Quora) و"ميديوم"(Medium) تشق طريقاً للعمق وسط الضوضاء، ومبادرات هامشية لاكتشاف المواهب الحقيقية على منصات "تيك توك" و"إنستغرام" تشعل شمعة في الظلام. والأهم صحوة مستخدمين يرفضون أن يكونوا وقوداً لنار التفاهة، يتساءلون مع دونو: لماذا اختزل مجتمعنا النجاح في المال وحده، متجاهلاً قيم الإتقان والأكاديميا والفنون الرصينة وحسن الخلق؟ أليس هذا الاختزال المشوّه هو الذي يغذي الآلة ويصنع من التافهين أبطالاً؟
لن يأتي التغيير كتحديث برمجي يصلح الخوارزميات بين ليلة وضحاها. المعركة الحاسمة تبدأ من ضميرنا الجماعي: برفضنا أن نكون حطباً لنار السطحية، وبمقاطعة المحتوى الفارغ حتى يجف عوده، بالبحث المتعمد عن الجواهر المدفونة في أقبية المنصات، وبالدعم الواعي للمبدعين الحقيقيين كي لا ينكسروا، وبالضغط المستمر على عمالقة التكنولوجيا لإعادة هندسة آلاتهم، لتصبح أدوات للكشف عن الجمال لا قنابل تفاهة موقوتة. وكما يحذر دونو، فإن تقبلنا لمعيار المال كقيمة عليا وحيدة هو ما يمنح هذه الآلة شرعيتها الخطيرة.
أمام صرخة الشعراء في الظلام، يجب أن تكون مقاومتنا – نحن حاملي مشاعل الجمال – هي البوصلة التي تعيد للآلة بعدها الإنساني الضائع. فما يطفو على شاشاتنا ليس سوى مرآة لإرادتنا الجمعية: إن اشتهينا الهش والسطحي.. زاد الهبوب والجهير. وإن اشتهينا الجمال والعمق.. فستجبر الآلة – رغم أنفها – أن تراه. وستبقى مسؤولية استعادة معنى النجاح الحقيقي، بعيداً من وهم الثراء السريع و"الترميز التافه"، تقع على عاتق المجتمع أولاً وأخيراً. فهل نفتح أعيننا قبل أن يطوّق الجمال بأصفاد الآلة إلى الأبد؟
وللحديث صِلة…