رفح.. المدينة المنكوبة
مع أول شعاع شمس، بدأت حركة النزوح. لا أعرف كيف تمكن الناس من تجهيز ما استطاعوا حمله وترك بيوتهم ومدينتهم والذهاب نحو الخيام. شارعنا كان شارعاً أساسياً للخروج من المدينة في "رحلة النزوح". عيناي امتلأتا بمشهد عربات النزوح، وقلبي انقبض بالألم ألف مرة ومرة.
عرفتم رفح عندما فاضت بالدم والدمار، وعندما فاض أهلها بالهم والألم والتعب. عرفتموها عبر المجزرة والحرب. ولكي أقرّب الصورة أكثر وتبقى في ذاكرتكم: في يوم 26 أيار/مايو 2024، أُحرقت منطقة البركسات. تفحمت أجساد النازحين، وقُطعت رؤوس أطفال.
في ذلك الوقت انتشر مصطلح "مجزرة البركسات"، واشتعل هاشتاغ "كل العيون على رفح"، وانتشرت صورة كاريكاتورية لطفل محروق مقطوع الرأس، وتخرج من رقبته زهرة. واقعة لا تُنسى. فهل تذكرتم رفح؟ هل ما زلتم تذكرونها اليوم؟
أتعرفون أنه في الأسبوع نفسه، وتحديداً في 28 ايار/مايو 2024، باغت الاحتلال الصهيوني أهل رفح بليلة تشبه جهنم؟ لم تمر على المدينة ليلة بهذه القسوة من قبل. كان صوت الانفجارات لا يتوقف. القذائف كانت تُقذَف بعشوائية، وأصابت تقريباً كل البيوت التي يزيد ارتفاعها عن 5 طوابق. لم تعرف جفوننا النوم. لم نكن نريد أن نعرف ما يحصل، رغم أن كل شيء كان واضحاً أمامنا.
"إسرائيل" كانت تهدد باجتياح بري للمدينة، وقد بدأت فعلاً في المناطق الشرقية. نحن في المناطق الغربية لم نتخيل أنه سيصل إلينا بهذه السرعة من دون حتى منشور إخلاء. كانت هناك مناشدات من أهالٍ محاصرين، وأخبار كثيرة بقدر كثرة أماكن الاستهداف. ومع بزوغ الفجر خف صوت البارود. كان علينا أن نفهم: حان وقت الفراق. حان وقت النزوح.
مع أول شعاع شمس، بدأت حركة النزوح. لا أعرف كيف تمكن الناس من تجهيز ما استطاعوا حمله وترك بيوتهم ومدينتهم والذهاب نحو الخيام. شارعنا كان شارعاً أساسياً للخروج من المدينة في "رحلة النزوح". عيناي امتلأتا بمشهد عربات النزوح، وقلبي انقبض بالألم ألف مرة ومرة.
لم أكن أريد أن أنزح. لم أرد أن أفارق بيتي. كنت، من دون سبب واضح، متيقنة بأنني لن أعود إليه، وإن عدت فلن أجده. لم أرد أن أبقى وحدي مع الأشباح في مدينة مهجورة. الآن أمامي خيمتي فقط، علامة نزوح لا أكثر.
بعد عام ونصف على نزوحنا، أريد جواباً واحداً على سؤالي: "أين كانت كل عيونكم؟" وأسأل هنا خاصة ما يسمى بالمجتمع الدولي.
لنقل: ما حدث قد حدث، ولا فائدة من استرجاع الماضي لأنه لن يغيّر شيئاً.
في هدنة كانون الثاني/يناير 2025، عاد بعض سكان رفح إلى بعض المناطق. أنا لم أعد. خوفي من رؤية بيتنا ركاماً شلّ حركتي. بعد شهر فقط، خرق العدو الاتفاق. هاجم ليلاً وقتل مسعفين بعد أن تلقوا اتصالات استغاثة. لم يكن شيء واضحاً، لكنهم ذهبوا ليؤدوا واجبهم الإنساني. الاحتلال قتلهم ودفنهم في حفرة وأحرق سيارتهم.
لن أنسى قصة الأب الذي كان يتصل بابنه ليسأله إن كان قد خرج من المدينة. وفي طريقه رأى جسداً ممدداً على وجهه والهاتف يرن بجانبه. اقترب ليرد على الاتصال كي يطمئن المتصل، فاكتشف أن الجسد هو ابنه، وجده مقتولاً. كما لن أنسى الأب وابنيه الذين استشهدوا. كل هذا وأكثر حدث في شهر رمضان. وقتها، أين كانت عيونكم؟ لماذا لم ترفعوا هاشتاغ "كل العيون على البركسات" كي لا تعلقوا 300 ألف إنسان بأمل كاذب بأن هناك من يهتم بمأساتهم؟ لماذا علقتموهم بقشة أمل؟
لنقل أيضاً إن هذا قد حصل، ولنقل إن عيونكم كانت شاخصة على حدث وظننتم أنه انتهى. ولنقل إن "المجتمع الدولي" كان في حالة خمول، فلم يقترح حلاً، ولا حتى إرشادات أساسية لتجنب تكرار ما عاشه أهل رفح.
فلننظر إلى الآن.
مرّ نحو أسبوعين على "وقف" إطلاق النار، ولا يوجد أي ذكر رسمي لرفح. يقال في الخطابات: "في المرحلة الثانية ستكون العودة إليها"، في اتفاق بلا مراحل زمنية واضحة. هناك 300 ألف نازح من رفح ينتظرون العودة، رغم أن رفح مُسحت بالكامل تقريباً بسياسة الأرض المحروقة التي نفذها العدو بشكل حرفي وممنهج. بحسب الإحصاءات الأخيرة، فإن 95% من رفح مدمّر. ومع ذلك، أهلها يريدون العودة. والعالم يقول: "غزة تحررت"، ولا أحد يسأل عن رفح ولا عن أهلها.
أعزائي، نتحدث عن قطاع غزة. وفي هذا القطاع توجد مدينة كاملة ما زالت حتى هذه اللحظة منطقة خطرة. هذه المدينة اسمها "رفح". سكانها، دقيقة بدقيقة، يسمعون شائعات. شائعة تقول إن إعادة الإعمار ستبدأ قريباً. وشائعة تقول إن المعبر سيفتح، فيظنون أنهم سيعودون. ثم يأتيهم التوضيح: لا عودة الآن. حركة الذهاب إلى المعبر ستكون بتنسيق أمني فقط.
اشرحوا لنا: هل الإعمار سيكون ونحن داخل رفح؟ أم سنبقى ننتظر عامين آخرين في الخيام حتى يسمحوا لنا بالعودة؟ وهناك شائعة أخرى تقول: "لن تكون لك أرض في رفح. سيعطونك شقة لتسكن فيها، وأراضي جدك وأبيك وخالك وعمك وجارك ستصبح ملك شركة إعمار". شائعات وشائعات.
نحن نريد إعمار رفح بسواعدنا. نحن الذين عشنا المعاناة، ولسنا ضيوفاً على القصة. من يطلق الشائعات، ومن يخطط في الخفاء، خطته ستفشل إذا لم يستشر الفلسطيني الرفحاوي. ولن يقبل الرفحاوي، ولا أي فلسطيني، بأي خطة تضيّع حقه في الأرض.
ومع كل هذه الإشاعات التي أسمعها صباحاً ومساءً، على كارة الحمار وبين الخيام، تجتاحني رغبة جارفة في أن أذهب إلى رفح، أن أراها وأرى دمارها، أن أقف هناك وأقول: "هم يرونها ثمينة فلا يتنازلون عنها، ونحن نراها أثمن ولن نتخلى عنها". لكنها ما زالت منطقة خطرة، وسآخذ بهذه الأسباب لأحمي حياتي.
أنا اليوم أكتب هذا الكلام كي يعرف ما يسمى "المجتمع الدولي" أن رفح هي الخيط الأخير لإثبات صدق قولكم بأن القوانين تنطبق على كل البشر، وأنها ليست حبراً على ورق عندما يصل الأمر إلى الفلسطيني. ابحثوا عن حلّ يحفظ هذا الخيط من القطع، لتحافظوا على "هيبة قوانينكم"، ولتكون المرة الأولى التي تُطبَّق فيها هذه القوانين على الفلسطيني فعلاً، لا قولاً.
