رواية "الجمال العظيم"... شبكة سرية من النبض والمعنى

هذه الرواية تجمع لغة بين التصوير والتحليل النفسي والفلسفة أتقنها عبد العزيز واستطاع من خلالها أن يوصّف كيف أن الهدم الأكبر الذي حصل لضياء كان في الخواء الذي ألمَّ بالعلاقة بينه وبين العالم.

  • رواية
    رواية "الجمال العظيم"... شبكة سرية من النبض والمعنى

من يقرأ رواية "الجمال العظيم" أولى النتاجات الأدبية للمخرج السوري محمد عبد العزيز، لا بد أن يجري مقارنة بينها وبين فيلم المخرج الإيطالي باولو سورنتينو ذي العنوان ذاته، ليلحظ بعض المشتركات المتعلقة بتشريح القهر والألم الإنساني، مداورة الأحزان وتفنيد معاني الموت والحياة، سطوة الأسطورة على الواقع بغية محاولة فهمه، البحث في طبقات اللغة وبنية السرد ومغزى الصُّوَر، والأهم كثافة الحُبّ التي تُضيء كل ما سبق، وتجعله أكثر قدرة على ترك الأثر. 

لكن ما يميز الرواية هو طفولة الراوي، على عكس بطل الفيلم جيب غامبارديلا الكاتب الستيني المشهور، وهو ما منح العمل الأدبي مُمْكناتٍ أكبرَ من الدَّهشة، وجعل صيرورة الأفكار في نموّ مضّطرد بدل الاستقرار القلق للشريط السينمائي، بحيث تبدأ فلسفة الجمال العظيم عند الكاتب السوري من الحزن الذي تسرَّب إلى الراوي وهو في رحم أمه بعد خسارتها المبكرة لوالده عزيز، ليكون ذلك أول ما ارتجف له قلبه، وأول شعور بالغربة أصابه قبل أن يُبْصِر نور العالم، لكنه بعد ذلك سيملك ملامح أبيه وسيكون هو ذاك النور الذي يُذكِّر والدته بالحياة فتُسمِّيه ضياء وفقاً لرغبة زوجها الذي زارها في الحلم. 

ذاكرة العناصر

سِرُّ الطفل هو تماهيه مع الطبيعة، وبحثه في ذاكرة العناصر، ومراقبته الزمن الذي يسير على إيقاعات الأجساد، لذلك تصير دودة بيضاء قادرة على أن تزرع في قلبه فكرة لا تنطفئ عن حقيقة الكون، بينما ندفة قطن يُخبِّئها في جيبه وتتحوَّل إلى نجمة في الليل ما هي إلا إحالة شاعرية عن آلية تشكُّل الوعي الجمالي، في حين أن وضع القليل من ريقه على حفرة في التراب لنداء حشرة البلوبلو هو أبجدية خاصة. وفي السياق ذاته فإن مراقبة النعاج أثناء الولادة كانت لضياء بمنزلة درس في الوجود والعدم، أما التوغل في حقل السمسم الذي "يحب المطر ويكره الوجع" كما أخبرته أمه فهو تجلٍّ من تجليات الإيمان الصوفي. 

واقعية سحرية تتسلل إلى سرد محمد عبد العزيز، ولا سيما عندما يتحدث عن أمه وكأنها جزءٌ من سلالة سرية ومرآة للطبيعة تجلَّت في هيئة بشر، وكذلك أثناء وصفه لشقوق يديها التي يختلط فيهما ماء الولادة بطين صناعة التنور الممزوج مع شعر الماعز والملح، ورغم ذلك فإن مسحة منهما على شعره كافية لإشعاره بأكبر درجات الطمأنينة، وكأن الحبل السري لم ينقطع بينهما أبداً، رغم بحثه الدائم عما سماه "ظل الأب" الذي لم يعرفه سوى عبر صورتين بالأبيض والأسود.

لون الأبدية

وأيضاً من خلال عالم النجوم الذي دخله... حيث "مدارات الكواكب مرسومة على الجدران، ومعادلات غريبة، وكتابات عبرية تتوهج بلون الأبدية، وطلاسم تزيدها غموضاً وسحراً"، كل ذلك كان بمنزلة شيء جديد يتخلل الراوي حتى أن القرويين بدأوا يقولون عنه بأنه طفل مُبارك، وكان سعيداً بذلك لأنه أحس أنه مملوء بالحب وأن خيطاً رفيعاً يربطه بعالم سري. 

لكن الصدمة الأولى التي ألمَّت بالطفل ضياء تجسدت بمحاولة تزويج أمه، ليختبر معها رغم صغر سنه ماذا يعني أن ينشق القلب، وليدرك أن الوحدة ليس أن تكون بلا أحد، بل أن تخاف فقدان من تحب، وحينها شعر بأنه كَبُرَ بسرعة وباتت نظرته إلى العالم مختلفة، لدرجة أنه في لحظات ما يشعر بأنه هو سحلية "الغومغموك" التي تسببت في غفلة من خالقها بإضرام النار في الجنة وفق التواتر الشعبي للحكاية، ويترافق ذلك مع إحساسه بأن عليه أن يكون سحلية "المارماروك" التي تحمل الماء بفمها الصغير لتطفئ تلك النار، وربما ذلك ما دفعه مع صديقين له لذبح حمامات جارتهم العمياء بلا رأفة، وتلا ذلك لسعة عقرب سامة لقدم أمه في الحمام ما اعتبره عقاباً على فعلته. 

تراكم الخبرات مع خيط السرد المتصاعد حقق نقلة في الوعي لدى ضياء حين أدرك أن بذوراً فنية بدأت تنمو في داخله، وشعر بأن الفن يبدأ حين تُصغي للكائنات الصامتة، وبأن الرسم هو وطن حقيقي، ولا سيما أنه في غياب كلمات تعبر عمّا يجتاحه، كان الخط والخطأ، اللون والخربشة، هما لغته الأولى ونافذته إلى الحرية، ليقع بعدها في حب الصورة عند مشاهدته ما يعرض على التلفاز لأول مرة في حياته، وفي حب الصوت المتسلل من خلف الأفق، ورغم إدراكه بأن الحياة ليست تلفازاً، إلا أن ذاك الجهاز علَّمه أن يرى أكثر من الظاهر، وأن يضع نفسه مكان الآخرين ليفهم ذاته أكثر.  

المقاومة حياة

وفي المدرسة الإعدادية، بدأت ميوله اليسارية بالظهور ولا سيما بعد أن قرأ كتاب "المقاومة حياة" عن جلسات محاكمة مظلوم دوغان في سجون تركيا، ثم إحراقه لنفسه في المعتقل، حينها بات حبُّه لبروين أقل قدرة على امتلاكه، لانشغاله بأفكار أكبر.

أما انتماؤه الأكبر فكان للسينما التي تعرَّف على أفلامها التجارية في صالة حداد التي يشتغل فيها قريبه، ثم في سينما دمشق التي حضر فيها فيلم "أحلام المدينة" وكان كالسهم الذي اخترق قلبه، والمفتاح الأول لروحه بعدما دفعه ناحية السؤال، وجعله يرى كيف يمكن للجمال أن يكون سلاحاً وللصورة أن تكون وطناً مؤقتاً، إذ إن السينما لم تمنحه الحكاية فقط، بل طريقاً ليفهم فيه نفسه. 

تغيير آخر وجوهري أصاب سيرورة بطل الرواية هو وصوله إلى مرحلة البلوغ في بيت جدته حيث تقع مدرسته الإعدادية، وإحساسه بخيانته لذاته نتيجة انفجار رغبته، لكن حِمْلَهُ تخفَّف بعد عودته إلى القرية ونشوء علاقة حب مع يسرى ذات العينين الزرقاوين، وإهدائها صورتها له، ما عمَّق علاقته مع ملكوت الصورة، لكن كسرة قلبه الجائرة جاءت من خال حبيبته الذي نقله صغيراً إلى المشفى لجبر كَسْرٍ في يده، إلا أنه بعدما علم بعلاقته مع ابنة أخته هدَّده بالقتل، وما زاد الأمر صعوبةً التناقض الذي لم يفهمه ضياء المتجسد بسؤال: كيف ليوسف الذي يعلم أولاده نقد رأس المال في المساء، أن يُحرِّم على ابن الطبقة العاملة أن يحب ابنة شقيقته؟ وكأنه فهم فائض القيمة على أنه فائض كراهية تعزَّزَ أكثر بعد تزويج يسرى لرجل بعيد.

طهارة الرؤية

لغة تجمع بين التصوير والتحليل النفسي والفلسفة أتقنها عبد العزيز واستطاع من خلالها أن يوصّف كيف أن الهدم الأكبر الذي حصل لضياء كان في الخواء الذي ألمَّ بالعلاقة بينه وبين العالم، ووعيه الذي انقلب إلى مرآة مشروخة، بحيث إن الراوي عبَّر عن ذلك بالقول: "ما فقدته لم يكن طفولتي، بل طهارة الرؤية. لم أكن أبحث عن الطفولة، بل عن اللغة التي ضيَّعتها"، ليدرك بعدها أن الفن الذي سعى إليه كان محاولات يائسة ليعيد صناعة لحظة الإدراك الصامت والعاري بأنه متماهٍ مع العالم، وهو ما جعله "ممتلئاً برؤية تشبه الوحي. يرى بتلك الحاسة التي لا اسم لها: التراب كأمومة أولى، والحشرة نقطة اتصال، والسحلية كعلامة، والطائر كحلم نحلمه من حياةٍ لأخرى. ليؤكد: "كنت أعلم، بكل يقيني، أنني رأيت الحقيقة كما تُرى مرة واحدة فقط في العمر: في اللحظة التي يتصالح فيها الإنسان مع ضعفه، ويتذكر أن العالم ليس سوى جسد واحد كبير، وأننا لسنا أفراداً مبعثرين، بل شبكة سرية من النبض والمعنى".  

اخترنا لك