رواية "كأني لم أكن": فشل الشعارات السياسية
تتحدث الرواية عندما عن شاب كان مدفوعاً بالشعارات التي تصدرها الأحزاب الحاكمة في كردستان بضرورة القتال والاستقلال، فلم يدرك كذب هذه الشعارات وزيفها إلا بعدما فهم وعرف وتعلّم.
-
رواية "كأني لم أكن" لهوشنك أوسي
يمكن تصنيف رواية "كأني لم أكن" للكاتب السوري هوشنك أوسي على أنها رواية نفسية بامتياز، رغم الحضور التاريخي بالرواية التي ترجع فيه إلى عام 1945 والعودة إلى العقدين الأول والثاني للقرن الـ21. وتنقسم الرواية إلى مرحلتين أساسيتين انطلق فيهما الراوي نفسه من تاريخه الخاصّ ليشمل بحكايته التاريخ العامّ، في ثلاثة أجيال؛ جيل الأب وجيل الابن، والأحفاد.
لعنة الأيديولوجيا
لو أردنا عنونة هذه الرواية بعنوان فرعي فسيكون "لعنة الأيديولوجيا" لأنها التيمة الكبرى من بين تيمات عديدة في الرواية. ففي سبيل أحد الأيديولوجيات بدأت مأساة الراوي وأهله وعالمه.
في الرواية نرى كيف انقلبت حياة الشخوص الرئيسيّين: "الأب شالاو، الابن هوزان، والزوجة والجدّة". وما كُسر قيد هذه اللعنة إلا بعدما تنصّلوا من كلّ مزيّف آمنوا به. بدأت حكاية الأب شالاو، عندما كان مدفوعاً في شبابه الأقرب إلى المراهقة بالشعارات التي تصدرها الأحزاب الحاكمة في كردستان بضرورة القتال وحمل السلاح والاستقلال، وما أدرك كذب هذه الشعارات وزيفها إلا بعدما فهم وعرف وتعلّم. خرج شالاو كواحد من مقاتلي الزعيم الكردي مصطفى برزاني الذي هُزم وانهارت جمهوريته في كردستان عام 1945. لكنها كانت الهزيمة التي جلبت النصر له بعدما سافر إلى الاتحاد السوفياتي مع بقيّة المقاتلين.
تلت هذه المرحلة مرحلة تفتّح الأفق، وهي أيضاً من أهمّ تيمات الرواية، على معاني مصطلحات مهولة اصطلح الجميع على أنها غير قابلة للتشكيك، بغضّ النظر عمن يقولها أو الغرض الذي من أجله تذكر هذه المصطلحات، كمصطلح الثورة والحزبية والوطن. وفكرة الوطن بالتحديد الهاجس الأكبر في الرواية بعدما شكّلها بطل الرواية، وعلى مدى جيلين، بصيغة مغايرة للسرديات التقليدية. فبعدما سلّم في صِغره بفكرة الوطن بالمولد، تبنّى في كِبره ونضوجه نهج الوطن العالمي، الوطن حيث الأمان والإنسان أينما كان.
فبالنسبة لجيل الأب، في البداية كان مفهوم الوطن لديه، خاصة عندما كان يافعاً، هو تلك البقعة الجغرافية التي نكتسب جنسيتها بالميلاد، بغضّ النظر عن مدى المعاناة والفساد والقهر الذي نلاقيه فيها، فهو الشخص الذي حارب في مطلع شبابه لاستقلال بلاده "إقليم كردستان" بعدما امتلأ بشعارات قادة تلك الحرب. لكن وبعدما عاش في مكان استطاع فيه تحقيق إنسانيته واندمج مع موجوداته، بشراً وجمادات وحيوانات، عرف، وبنى لنفسه وطناً جديداً، وطناً شعر فيه بمعنى الهوية.
فعندما سافر شالاو إلى روسيا، عاش مع "سارا" التي تزوّجها، وهي التي فتّحت مداركه على العلم والمعرفة ونقد الشعارات الزائفة، رغم أنها وأمها "أولجا" كانتا تعانيان من المأساة نفسها، وهي التي مات أبوها الشاعر، في معتقلات ستالين الذي حُرّم عليهم حتى الإتيان على سيرته. وهناك حيث أقام وطنه الجديد امتلك بيتاً، سكن إلى بشر، عشق امرأة وكان لأمها كابن لم تلده، وأنجب الأطفال، ومارس حرفة فرح بها. ووصلت الفكرة التي نستطيع أن نقول إنها "عالمية الأوطان" إلى ذروتها في الابن هوزان الذي كان يحمل في دمه أعراقاً متعدّدة؛ السوري والعراقي والكردي والروسي.
في الجزئية التالية من الرواية، مشاهد العودة إلى وطن المولد، صوّر الكاتب بدقة نقد فكرة الأوطان، عندما أجبر شالاو على ترك البيت الذي عاش فيه ووطنه الجديد والعودة إلى العراق. لكن هناك ظهر الفارق بين الشخص نفسه لكن في مرحلتين مختلفتين. فالشخص الذي حارب من أجل وطنه القديم هو نفسه من يبكي لفراق بيته في وطنه الثاني، بكاء من كشف الحقيقة، وهو ما تجلّى في ردّة فعله برفضه المشاركة في أيّ من الأعمال التي بدأ الكرد في استئنافها ونأى بنفسه عن كلّ زيف.
ربما هو الأمر الذي تكرّر في جيل الابن "هوزان" الذي نأى كأبيه، بنفسه عن كلّ ما يمّت للسياسة وأهلها بصلة. والذي رغم اهتمام كلّ منهما بشؤونه إلا أنهما لم ينجحا في الفرار من المصير المحتوم الذي قرّرته عليهما سياسة لا يد لهما فيها.
دلالة العمى في الرواية
في رواية "العمى" لسارماجو، ابتلي الناس جميعاً، وفجأة من دون مقدّمات أو أسباب بالعمى، وأيضاً من دون مقدّمات أو أسباب أبصروا جميعهم فجأة، بالضبط هذا ما حدث في الفصل الأخير من حياة هوزان الراوي، بعدما استفاق يوماً فاقداً للبصر من دون أيّ علّة جسمانية. عمى البصر الذي فتح بصيرته أو عين قلبه على ذاته وذوات من حوله، لدرجة أنه استنتج أنه كان أعمى بجهله عن كلّ ما بات يعرفه الآن، حتى عندما كان مبصراً. تلك الحقائق التي عرفها واختبرها فأعادت إليه البصر، لكنه فقد حاسة أخرى تدلّ على جهل آخر ربما، لا يزال غير مستكشف.
في الرواية رمزية بارزة أيضاً، وهي كلام سارا عن أبيها الشاعر الذي انتحر في معتقل ستالين، بعدما عرف أنّ تلك الشعارات التي كان ينادي بها ويحرّض بها الناس، كالثورة والمساواة وغيرها، محضّ زيف أوصلهم إلى جحيم استبداد ستالين، فانتحر دلالة على زيف هذه الشعارات وموتها، وتزامن ذلك مع تفتّح عقلية شالاو على العالم الحقيقي الذي كشف به زيف شعارات نادى بها أشخاص مماثلون في مكان آخر أوصلهم للهلاك أيضاً. ولا نعيب هنا على الشعارات والمطالبة بالقيم الإنسانية بل هو الزيف، واتخاذ هذه الشعارات النبيلة الحقّة والمراد بها تحقيق طغيان آخرين. فعندما تدعو شعباً جاهلاً بحقوقه وتقصيه عن معرفة دوره كاملاً كمجرّد أداة، إلى ثورة، فهذا عين الزيف.
أيضاً للدلالة على زيف الأيديولوجيات وشعاراتها، أقحم الراوي خدعة حكايات هوزان لطبيبه النفسي، ففي جلسات العلاج النفسي التي نصح بها الأطباء الراوي، كان يقصّ على طبيبه حكايات متخيّلة لا تمّت له ولا لعائلته بصلة، كأنه يحكي عن أشخاص آخرين، لكنّ الخدعة أنه كان يحكيها بكلّ ثقة، كذبة صدّقها هو نفسه فصدّقها الطبيب، صدّقها لدرجة أنه في وقت ما تاه في هويته الحقيقية، وهذا ما يحدث عندما تحاول فرقة ما إقناع الآخرين بفكرة أو هوية أو عقيدة، حتى لو كانت كذبة. فببساطة ما يقال هو النقيض الكلي للحقائق.
في الرواية حاول كلّ من "الأب والابن" النأي بنفسيهما عن السياسة، خاصة بعدما علما أنهما مجرّد أداة في يد أصحاب المصالح العليا، لكنّ الابتعاد عن السياسة في عالم مضطرب كالذي نعيشه هو العبث بعينه. فمهما نأى المرء بنفسه لا بدّ وأن يُقحم فيما لم يخيّر فيه أساساً. فبعدما ابتعد شالاو وسافر إلى سوريا اتخذ منها وطناً جديداً في آخر أيامه، كان لمصيره شأن آخر. مات، ليس في ميدان معركة، بل في ساحة يفجّر فيها المتحاربون على الحكم بعضهم، عندما مرّ بالصدفة في ميدان سوري يقتتل فيه الإخوان المسلمون وقوات حافظ الأسد. وهو الأمر الذي تكرّر أيضاً مع الابن هوزان الذي نجا من العمي والحرب في سوريا المعاصرة عام 2011، وسافر إلى فرنسا، قارة مغايرة تماماً، ليعرف سبب صمم أذنيه المفاجئ، فإذا به يقتل بهجوم إرهابي في أحد المسارح في باريس.
هناك تفصيلة في هذه الرواية حضرت في أولها وآخرها، وهي السرداب السري الموجودة فيه المخطوطات والكتب الأثرية التي حفظها الأب والابن التي أوصى بها الزوجة. ظلت هذه الكنوز المعرفية متوارية في السرداب لا ينتفع بها أحد، كأنّ الكاتب يقول إنّ الرصاص لا يعرف القراءة، فلن ينال هذه الكنوز إذا ما خرجت إلا الدمار فالأفضل أن تظلّ متوارية.
لكن أيضاً وكما بقيّة انقلابات أحداث الرواية من النقيض للنقيض، ورغم الرسالة التي تنهى من يعثر على كنز المخطوطات من أن يدلّ عليه أحد، إلا أنّ هوزان في وصيته الأخيرة قبل الموت، وكأنه يعرف بدنوّ أجله، أوصى أن تنقل هذه الكنوز إلى مكان آمن قبل أن تطالها مخالب الحرب المدمّرة للبشر والحجر، لعلّ أحدهم ينتفع بها. ربما أيضاً في دلالة على أنه مهما نأى المرء بنفسه عن أسباب الدمار إلا أنّ الأقدار دائماً ما تكون لها الكلمة الأخيرة.
تتحدث الرواية عندما عن شاب كان مدفوعاً بالشعارات التي تصدرها الأحزاب الحاكمة في كردستان بضرورة القتال وحمل السلاح والاستقلال، وما أدرك كذب هذه الشعارات وزيفها إلا بعدما فهم وعرف وتعلّم.