سراب الأيقونات الزائفة

"الأيقونات الزائفة" لا تختطف أعيننا فحسب، بل تختطف أحلامَ الأجيال الناشئة أيضاً. فهي تروّج لمعادلة خادعة مفادها أن النجاح يساوي الظهور المقترن بالثراء والمتابعين. معادلةٌ تخلو من أيّ بعدٍ أخلاقي أو فكري أو اجتماعي.

  • كيم كارداشيان في رسم كاريكاتوري يصورها تدلي بشهادتها بشأن تعرضها للسرقة عام 2016 في باريس
    كيم كارداشيان في رسم كاريكاتوري يصورها تدلي بشهادتها بشأن تعرضها للسرقة عام 2016 في باريس

في زمنِ الصورة السريعة والضجيج اللامتناهي، لم تعد قيمتُنا تُقاس بما نُنتج، بل بما نستهلك. لم تعد تُوزن بأعمالنا، بل بمظاهرنا. هو عصر جديد يعلو على أطلال القيم القديمة، عصرٌ تُختَطَف فيه مفاهيم النجاح والجدوى والمنفعة، لِتُعلَّب في قوالب جوفاء من الشهرة الاستعراضية والثراء المُريب، ثم تُقدَّم لنا على أنها النموذجُ الأعلى الذي يجب أن نحتذي به.

وهنا نستذكر تحذير الفيلسوف الألماني، هربرت ماركوز، في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد" من أن النظام الاستهلاكي يخلق حاجات زائفة ويختزل قيمة الإنسان في كونه مجرد مستهلك، ما يؤدي إلى تسطيح الوعي وإبعاده عن الأسئلة الجوهرية.

لم يعد المُنتَج هو المحور، بل "الانطباع" عن المنتج. ولم يعد الجوهر هو الأساس، بل الغلافُ الفاتنُ البرَّاق. لقد شهدنا جميعاً، وبصورة متسارعة ومقلقة، صعودَ نجوميةٍ من نوع غريب، تُبنى لا على موهبة فذّة أو إبداع متفرد أو إسهام مجتمعي، بل على مهارة في استعراض الثراء والتباهي به، مهما كانت مصادره غامضة وماهيته هشّة. 

لقد أصبح "الكاردشيان ستايل" – إذا جاز التعبير – هو النموذج المسيطر، حيث تُقدّم سيداتٌ على أنهن رائدات أعمال، لا لأنهن أنشأن إمبراطوريات إنتاجية حقيقية، بل لأنهن أتقنّ لعبة الاستهلاك الباذخ وتحويل تفاصيل حياتهن الخاصة إلى سلعة قابلة للعرض والبيع والمشاهدة. 

هذه الظاهرة تنطبق تماماً على مفهوم "مجتمع الاستعراض" الذي طوّره الفيلسوف الفرنسي، ميشال فوكو، حيث تحولت الحياة الخاصة إلى مسرح دائم، وهو ما سمّاه الشاعر والكاتب، غي ديبور، "مجتمع الفرجة" (Society of the Spectacle)، حيث تُستبدل العلاقات الإنسانية الحقيقية بتمثيلاتها الصورية.

إن الخطر الحقيقي ليس في وجود هذه النماذج، فالمجتمعات على مرّ العصور شهدت أشكالاً من الثراء الفاحش والاستعراضي، بل الخطرُ يكمن في "أيقنتها"؛ أي تحويلها إلى رموزٍ يُحتذى بها، وتسليط الأضواء الإعلامية الجبارة عليها حتى تبدو وكأنها الطريقُ الملكي الوحيد للنجاح. 

تُروَّج هذه النماذج على أنها قصةُ كفاح وذكاءٍ تجاري أو استثماري، بينما جوهرها الحقيقي هو الاستسهالُ والبحثُ عن الطرق المختصرة: الشهة السريعة بلا مبرر، والمال الوفير بلا إنتاج حقيقي، وجيشٌ من المتابعين بلا رسالةٍ تُذكَر.

هذه "الأيقونات الزائفة" لا تختطف أعيننا فحسب، بل تختطف أحلامَ الأجيال الناشئة أيضاً. فهي تروّج معادلة خادعة: النجاح = ظهور + ثراء + متابعون. معادلةٌ تخلو من أيّ بعدٍ أخلاقي أو فكري أو اجتماعي.

هذه المعادلة هي التجلّي المعاصر لما حذر منه فريدريك نيتشه من "موت المعنى" في ظل العدمية، حيث تُختزَل الحياة في سعي فارغ نحو الظهور، وهو ما حذّر منه أيضاً الفيلسوف الوجودي، سورين كيركغور، الذي اعتبر اليأس الحقيقي هو "أن تكون ذاتاً لا تريد أن تكون ذاتها الحقيقية". إنها تقتل السؤال الجوهري: "كيف؟" كيف جُمع هذا الثراء؟ وأي قيمة أضافها هذا الشخص لمجتمعه؟ وأي عطاءٍ قدّمهُ للإنسانية؟

ولعل الأكثر إيلاماً أننا في مجتمعاتنا العربية أصبحنا مستوردين سلبيين لهذه النماذج، ننقلها بكلّ تناقضاتها وآفاتها من دون أن نمتلك آليات النقد والتمحيص. نرى "سيدة أعمال" لا نعرف تماماً ما هي أعمالها، تُغطى أعراسها الباذخة وكأنها حدثٌ قومي، بينما لا نكاد نسمع عن عالمة أو مخترعة أو سيدة أعمال حقيقية تبني وتُنمّي اقتصاداً منتجاً.

هذه الآلية هي بالضبط ما كان يصفه أنطونيو غرامشي بـ "الهيمنة الثقافية"، حيث تُفرض قيم الطبقة المسيطرة على أنها القيم الطبيعية، فنتبنّاها من دون وعي، وهو شكل من أشكال الاستعمار الثقافي كما يذهب إدوارد سعيد.

في النهاية، فإن تحديث مفهوم النجاح هو معركة وعي ثقافي. إنه الدفاع عن فكرة أن النجاح الحقيقي هو رحلة وليس محطة، هو عطاء وليس أخذاً، هو بناء تراكمي وليس قفزة في الفراغ. إنه إعادة الاعتبار للجوهر على حساب المظهر، وللإنسان العامل على حساب المتفرج المستهلك. 

وهنا علينا أن نستلهم حكمة الفيلسوف الرواقي، سينيكا، الذي قال قبل قرابة 2000 عام: "ليس الفقير من يملك القليل، بل من يرغب في المزيد". النجاح الحقيقي، كما عرّفه أرسطو، هو "إدراك الطاقات الكامنة في الذات" من خلال العطاء والعمل الجاد. فلنرفض أن يكون سراب الاستهلاك هو أيقونتنا، ولنبحث عن النماذج التي تُضيء، لا التي تبرق.

اخترنا لك