شرط كلّ نهضة ثقافية
الثقافة العظيمة ليست رديفاً للسياسة ولا زينةً تُعلّق، بل هي الرحم الخصب الذي يُولد فيه التغيير الحقيقي، والمحرّك الأصيل لأيّ نهضةٍ تستحقّ الاسم.
-
"موت سقراط"، جاك لوي ديفيد، 1787، متحف متروبوليتان للفنون، نيويورك
في حلبة التنافس بين الدول، كثيراً ما تتبارى العواصم لتعلن نفسها حاضنةً للثقافة الأرقى ومنارةً للإشعاع الفكري. لكنّ الريادة الثقافية الحقيقية ليست مجرّد ألقاب تُمنح أو مظاهر تُصطنع، بل هي نتاج شروطٍ جوهريةٍ تفرضها طبيعة النهضة نفسها. فما الذي يميّز عاصمةً ثقافيةً حقيقيةً عن أخرى تكتفي بالزخرف السطحي؟
نحظى بإجابة عن هذا التساؤل في حقيقة محورية، وهي أنّ جوهر التفوّق الثقافي يكمن في مدى توفّر شرطه الأصيل؛ حرية التعبير المطلقة. فهي التربة الوحيدة التي تنبت فيها بذور الإبداع الجريء، والصراع الفكري الخلّاق، والفن الذي لا يخشى كسر التابوهات. فمن دون هذا الأوكسجين الذي يتنفّسه المفكّر والفنّان، تتحوّل الساحات الثقافية إلى متاحف للأفكار المحنّطة، وتفقد العواصم المتنافسة ادّعاءها بالريادة، مهما بلغت من فخامة المظاهر أو ضخامة الموارد. فالثقافة العظيمة ليست رديفاً للسياسة ولا زينةً تُعلّق، بل هي الرحم الخصب الذي يُولد فيه التغيير الحقيقي، والمحرّك الأصيل لأيّ نهضةٍ تستحقّ الاسم.
ليست النهضة الثقافية بضاعة تُستورد، ولا زخرفة تُعلّق على جدران الواقع، إنها روح تنبض في صدر الأمة، تولد من رحم الصراع الفكري الحرّ، وتنمو بسقيا جدل الأفكار تحت شمس التعبير غير المقيّد. فمن دون حرية الرأي والتعبير، تلك الركيزة التي لا تُستبدل، تظلّ أيّ نهضة ثقافية حلماً عقيماً، كبذرة دفنت في ظلمات التربة فلم ترَ نور الشمس ولم تذق ندى الحرية.
والأمر الأعمق أنّ هذه الثقافة المتحرّرة ليست رديفاً هامشياً للسياسة أو تابعاً لها، بل هي الرحم الخصب الذي تُخلق فيه السياسات المستنيرة، والمحرّك الأصيل الذي يصوغ رؤية المجتمع قبل أن تُصاغ قوانينه. كما قال سقراط "الحياة التي لا تُخضع للفحص والنقد لا تستحقّ أن تعاش". فكيف تُفحص الحياة وتُصحّح مساراتها من دون حرية نقد شاملة؟
وهنا يبرز دور الأدب والفنّ الحيوي لأنهما ليسا واجهةً جماليةً أو "فاترينة" تخفي قيود المجتمع، بل هما نبض النهضة العضوية وأعصابها الحية. يعبّران عن روح الأمة وأسئلتها المصيرية، ويشكّلان وعيها قبل أن تتبلور فلسفتها السياسية. فالشعر الجريء والرواية الثائرة واللوحة المعبّرة ليست زخارف ثقافية، بل هي دم يسري في شرايين التغيير، يغذّي رؤية المجتمع ويكسّر تابوهاته. تاريخ الأمم يشهد أنّ عصورها الذهبية وُلدت حين تحرّر الفنان والمفكّر من قيود "الشكل" ليلمس أعماق الإنسان.
إنّ الثقافة الحيّة ليست متحفاً للأفكار المحنّطة، بل هي سوق نابضة بالمعنى، تتهادى فيها الآراء كالقوافل المقبلة من أقصى البلدان، حاملةً بضائع فكرية متنوّعة، بعضها غريب، وبعضها مألوف، وبعضها يهزّ أركان اليقين. فحين تُكمّم الألسن، وتُسجن الكلمات في أقبية الرقابة أو جدران الخوف، تتحوّل هذه السوق النابضة إلى ساحة صماء مهجورة، تغيب فيها أصوات النقد البنّاء، ويختفي حوار التناقض الخلّاق الذي يلد الجديد ويصقل القديم. وكما حذّر فولتير "قد أختلف معك في الرأي، لكني على استعداد للموت دفاعاً عن حقك في قول ذلك الرأي". فهذا الاختلاف المحترم هو وقود التطوّر، وليس عائقاً له.
التاريخ شاهد صادق: فما من أمّة ارتقت في سلّم الحضارة إلّا وكانت حرية الفكر والتعبير نبراسها. في ساحات اليونان القديمة، حيث ازدهر الجدل الفلسفي من دون وازع، وُلدت أسس المنطق والجمال والسياسة التي ما زالت تحفّز العقول. وفي عواصم أوروبا خلال عصر التنوير، حيث انتشرت صالونات الأدب والمنشورات الجريئة، تحطّمت أغلال الجهل والاستبداد لتبزغ شمس العلم والعقلانية. وحتى في تراثنا العربي الإسلامي الزاخر، كانت فترات الازدهار الثقافي مرتبطة ارتباطاً عضوياً بدرجة من الانفتاح الفكري، حين كان صوت المعتزلة أو فلاسفة كابن رشد يتردّد في أروقة المعرفة.
هنا تبرز حقيقة مصيرية: الثقافة العظيمة ليست ملحقة بمركبة السياسة كي تجرّها حيث تشاء، بل هي القوة الخفية التي تشكّل إطار السياسة وغاياتها. هي التي تعيد تعريف "الممكن" وترسم حدود "المطلوب". كما رأت حنة أرندت: "أكثر الأفعال السياسية جذريةً هي تلك التي تبدأ بالتفكير". والتفكير الحرّ هو جوهر الثقافة الحقيقية.
لا تُبنى النهضة على التمجيد الأعمى أو التكرار العقيم. إنها تُبنى على النقد الجريء الذي يطاول كلّ شيء، والمراجعة الشجاعة للتراث، والتساؤل الذي لا يهاب. كيف لنا أن نصحّح مسارنا إن لم نُسلّط ضوء النقد على أخطائنا؟ كيف نبتكر إن لم نتحرّر من قيود "ما كان عليه الأولون"؟
حرية التعبير هي الأوكسجين الذي يتنفّسه الإبداع، هي التربة التي تنمو فيها بذور الفن الجريء، والأدب الصادق، والفكر العميق الذي يلامس جوهر الإنسان. من دونها، يتحوّل الإبداع إلى زخرفة سطحيّة، وإلى صدى باهت لأصوات مسموح بها. وهذا ما أكّده نعوم تشومسكي: "إذا لم نؤمن بحرية التعبير لمن نكره، فنحن لا نؤمن بها على الإطلاق".
إنّ خنق حرية الرأي انتحار ثقافي بطيء. يجعل المجتمع كالغابة الكثيفة التي تختنق فيها الأشجار الصغيرة، فلا ضوء يصل، ولا هواء يتجدّد. تذبل الأرواح المبدعة، وتفرّ العقول النيّرة، وتبقى الثقافة تدور في حلقة مفرغة من الترديد، عاجزة عن مواكبة تحدّيات العصر. عندها تصبح السياسة بلا بوصلة ثقافية.
وكما رأى مالكوم إكس "أخطر إنسان هو الذي يستطيع أن يفهم نفسه من دون أن يتأثّر بالرأي السائد". فإذا أردنا نهضة ثقافية حقيقية، تنبع من أعماقنا وتلامس آفاق الإنسانية، علينا أولاً أن نحرّر الكلمة من كلّ القيود، خصوصاً قيود السلطة على أنواعها. أن نصنع فضاءً آمناً للحوار، ولو اختلفت الأصوات. أن نؤمن بأنّ الحقيقة ليست ملكاً لفرد أو فئة، بل هي غاية سامية تُكتشف عبر التبادل الحرّ للأفكار. عندها فقط، تنكسر قيود الجمود، وتنبعث روح الإبداع: ثقافة حرّة تلد سياسة حكيمة، وأفكار طليقة تبني عالماً أكثر إنسانية.