ضرورة الصيام الرقمي (2): بحثاً عن تكامل ضائع

"الصيام الرقمي" ليس إنكاراً للعالم الجديد، بل هو "صحوة وعي" نعيد فيها ضبط البوصلة. هو ذلك الفضاء الذي نميّز فيه بين "الكثافة" و"الكم"، بين التواصل العميق والثرثرة الرقمية.

أواصل هنا ما بدأته في مقالة "ضرورة الصيام الرقمي"، إذ بتنا نعيشُ في زمنِ القسمة المستحيلة: واقعٌ ملموسٌ نتنفسُه، وافتراضيٌ نعيشُ فيه. بين هذين العالمين تمتدّ هوةٌ ظنناها فاصلة، فصرنا ننتقل بينهما بقلقٍ وحيرة. لكنّ السؤال الجوهريّ ليس في اختيار أحدهما، بل في كيف نجدُ الجسر الذي يصل ما انقطع، والتوازن الذي يجمع لا يفرّق.

لقد خاننا التعبير حين وصفنا العالم الرقمي بـ"الافتراضي"، فما يحدث فيه من مشاعر حقيقية، وصداقاتٍ متينة، وحركاتٍ اجتماعيةٍ ثائرة، ليس بافتراضيٍ البتة. إنه عالمٌ موازٍ، له قوانينه وفضاؤه، يصنعُ واقعنا بقدر ما يصنع الواقعُ الملموسُ ملامحَه. الخطيئة الكبرى ليست في وجود هذا العالم، بل في استسلامنا له واستهلاكنا فيه، بدل أن نُبدع في جعله أكثر عمقاً ورقيّاً وإنسانية.

لئن كانت الحضارة الإنسانية قد اخترعت "التواصل" كفنٍ من فنون الوجود، فها نحن نجد أنفسنا اليوم أمام مفترق طرق: إما أن ننغمسَ في التدفق الرقمي حتى تفقدَ حواسنا الكثير من جدواها، وإما أن ننعزلَ عن العصر كأننا لم نكن. لكن ثمة طريقاً ثالثاً وهو أن نتعلم "فنَّ الملاحة" بين العالمين.

إيقاع وجودي جديد

ليس "فن الملاحة" مجرد تنقل سطحي بين الشاشة والواقع، بل هو إيقاع وجودي نعيد فيه اكتشاف أنفسنا في كل محطة. إنه ذلك الحضور الذهني الذي نعيشه حين نلتقي بصديق بعد حوار رقمي طويل، فنجد أن الوجوه المشرقة تكمل ما بدأته الحروف. إنه التوقف الواعي عند ذلك الحاجز الخفي بين العالمين، لنختبر لحظة اختيار: متى نفتح الهاتف؟ ومتى نغلقه؟ متى نسمح للرقمي بأن يوسع دائرة حضورنا؟ ومتى نحتاج أن ننكمش على ذاتنا في عالمنا الملموس؟

وما نسميها "بوصلة الملاحة" تتشكل من أسئلة جوهرية: أي نوع من الوقت نعيش في كل عالم؟ هل نملأ العالم الرقمي بثرثرتنا، أم نملؤه بإبداعنا؟ هل نستخدمه للهروب من واقع نعيشه، أم لتعزيز واقع نبنيه؟ إنها ملاحة تحتاج إلى شجاعة الاعتراف بأننا ضائعون أحياناً، وأننا نحتاج إلى التوقف لإعادة توجيه البوصلة.

من الاستهلاك إلى الإبداع

إن التحول من "فضاء الاستهلاك" إلى "ورشة الإبداع" يحتاج إلى ثورة في مفهومنا للأداة الرقمية ذاتها. فالشاشة التي صممت لنتلقى عبرها، يمكن أن تتحوّل إلى منصة نعطي عبرها. ها هم الشعراء يحوّلون منصات التواصل إلى ورش قصيدة يومية، والموسيقيون يبتكرون أعمالاً تتفاعل مع المتلقي في كلا العالمين، والمعلمون يصممون رحلات تعليمية تبدأ بشاشة وتنتهي بتجربة حية في الواقع.

وهنا، نستذكر ماكس فيبر الذي حذّر قبل أكثر من قرن من مخاطر "القفص الحديدي" للعقلانية الحديثة، الذي قد نجد أنفسنا فيه أسرى للتقنية بدل أن نكون سادتها. لكننا نرفض أن يكون العالم الرقمي قفصاً حديدياً جديداً، بل يجب أن يكون جسراً نحو إبداعنا. 

إذا ظل العالم الرقمي مجرد مكان نستهلك فيه الأخبار والمقاطع والعلاقات السطحية، فسنفقد تدريجياً قدرتنا على العطاء. لكن حين يتحوّل إلى مساحة نكتب فيها قصيدتنا، نصمم فيها مشروعنا، نبتكر فيها حلاً لمشكلة، ننظم فيها مبادرة - فإننا نحقق المعادلة الصعبة: أن نستخدم الأداة من دون أن تستعبدنا، أن ندخل العالم الرقمي كفاعلين لا كمنفعلين.

ها هي الأمثلة الحية تثبت إمكانية هذا التحوّل: مجموعة قراءة تبدأ افتراضياً ثم تتحوّل إلى نادٍ أدبي حقيقي يلتقي أسبوعياً. مبادرة مجتمعية تولد من منشور على "فيسبوك" ثم تتحوّل إلى حملة تنظف شاطئاً أو تزرع حديقة. فنان يشهر فرشاته الرقمية ليرسم لوحة تثير أسئلة وجودية، ثم يحوّلها إلى معرض حقيقي تتنفس فيه الألوان.

إن صروح الفن والثقافة الواقعية لم تعد متناقضة مع فضاءات الإبداع الرقمية. المسرح الذي يبثّ عروضه افتراضياً يوسّع دائرة متابعيه، والمعرض الفني الذي يمكن تجواله إلكترونياً يصل إلى عشاق الفن في أصقاع الأرض. لكنّ اللحظة السحرية تظل حين يتحوّل هذا المتلقي الرقمي إلى زائرٍ حقيقيّ، يشارك بأنفاسه في القاعة، ويضيفُ إلى العمل دفئه البشري الفريد.

وها هي الحياة اليومية تقدم لنا دروساً في التكامل: معلمون يحوّلون الشاشات إلى فصول حية تثير الأسئلة قبل الأجوبة، وعائلات تستخدم التطبيقات لتنظيم لقاءاتها ثم تجتمع حول مائدة واحدة يملؤها الدفء الأسري الذي لا يعوضه أي شيء آخر، وأطباء يواصلون مراقبة مرضاهم رقمياً ثم يلتقونهم في العيادة بما تمليه إنسانية هذه المهنة.

صحوة وعي

إن "الصيام الرقمي" في هذا السياق ليس إنكاراً للعالم الجديد، بل هو "صحوة وعي" نعيد فيها ضبط البوصلة. هو ذلك الفضاء الذي نميّز فيه بين "الكثافة" و"الكم"، بين التواصل العميق والثرثرة الرقمية. نحن لا نصوم عن العالم الرقمي كله، بل نصوم عن التخمة التي تمنعنا من تذوّق القيم الإنسانية في كلا العالمين.

ولا يفوتنا في هذه العجالة أنه لا يمكن فصل هذا التكامل المنشود عن مسؤوليةٍ مزدوجة: مسؤولية الشركات المالكة للمنصات الرقمية في تحويل بوصلة خوارزمياتها من صيد وعي المستخدم وكسب وقته، إلى إثراء وجوده وتعميق تجربته. ومسؤولية السلطات التشريعية في سن قوانين عادلة تنتشل هذه المنصات من مستنقع الربح السريع، لتصبح فضاءاتٍ تثري ولا تستهلك، تبني ولا تهدم.

فكما يحتاج الأفراد إلى "صحوة وعي"، تحتاج المنصات إلى "صحوة مسؤولية"، فلا انبهارَ يصل بنا إلى الذوبان في الآلة، ولا خوفَ يصل بنا إلى القطيعة مع العصر. إنما هي حكمة التعايش، حيث نستخدم الوسيط الرقمي لتعميق علاقاتنا الواقعية، لا لاستبدالها. بذلك التوازن الغائب حالياً، تكون التكنولوجيا جسراً لتمتين التواصل والتفاعل الإنسانيين، لا سداً منيعاً أمامهما.

اخترنا لك