عمّان..سخاء المودة
عمّان ليست مجرد عاصمة، بل هي قصة متجددة. فيها، يُعيد الماضي صناعة الحاضر، والزائر يصير أخاً. هي مدينة ترفض أن تُختزل في صورة.
-
صورة من عمّان في ستينيات القرن الماضي
عَمَّان في الْقَلْب أَنْتِ الْجَمْرُ وَالْجَاهُ
بِبَالِي عُودِي مُرِّي مِثْلَمَا الآهُ
(سعيد عقل، الأخوان الرحباني، فيروز)
**
ليست كل المدن قادرةً على أن تُنسيكَ هَمَّ السياسة وهي في قلب أعاصيرها، لكن عمّان تفعل ذلك بسلاسة. كلما عدتَ إليها، تستقبلك كأنها حضنٌ دافئ يمحو مشقّة السفر؛ فكأن الزائر يدخل بيتاً يعرف ممراته قبل أن تطأه قدماه.
هنا، في قلب بلاد الشام، حيث تتنفس الأرض تاريخاً وتروي الحجارة قصص الأجداد الغابرين، تقف عمّان كعروس الجبال الشامية، تتهادى على سبع هضاب كتاج ملكي أو كلَوحة تشكيلية رسمتها أيادي الطبيعة والإنسان.
لا تُعرَف عمّان فقط بحجارتها البيضاء، بل بقلوب أهلها التي تتسع للضيف كسماء الصيف.
هنا، الكرم ليس مجرد عادة، بل هو جوهر السلوك. يقول المثل الأردني: "اعزم وأكرم والأكل نصيب"، فترى الأيادي تمتد بالقهوة المُرّة، والوجوه تبتسم للضيف كشموس الصباح، وذلك رغم كل ما يُقال عن التكشيرة الأردنية الناجمة ربما عن طبيعة تشتد قسوة كلّما اتجهتَ جنوباً حيث الهضاب الجبلية المتصلة بالصحراء؛ فكما يترك الإنسان أثره في المكان، يترك المكان أثره فيه.
في أزقة جبل عمّان القديم، أو بين بيوت اللويبدة، يحكي المضيف - أو المعزّب باللهجة الأردنية - للزائر قصص المدينة وكأنه فرد من العائلة؛ فكأنّ الزمن يعيد نفسه ليُذكّرنا بأن الضيافة هنا إرثٌ لا يُمس. وبعض تلك البيوت بات يتسع لأمسيات شعر وموسيقى وغناء حين جعله أصحابه أو القيّمون عليه مراكز ثقافية ومنتديات ومقاهي تكاثرت في الآونة الأخيرة.
من "ربة عمون" القديمة إلى "فيلادلفيا" الرومانية، مروراً بالعهد الإسلامي وما تلاه، كل حقبة تركت بصمتها على جبين المدينة. يشهد على ذلك "المدرج الروماني" الذي ما زال يصغي لهمسات الماضي، و"قلعة عمّان" التي تقف شامخة كحارس للتاريخ حيث الجغرافيا تحتضن آثاراً تروي حكايات الأنباط والرومان وكل الأسلاف الذين مرّوا أو استقروا.
تنام عمّان على هضابها، متلفعة برداء أبيض من الحجر الجيري، كأنها موكب فرحٍ طفولي في "أحد الشعانين". البيوت المتراصّة على المنحدرات، بنوافذها المُقوَّسة وحدائقها المختبئة، تبدو كسطور قصيدة كتبها مهندسو الزمن. وفي اللويبدة وجبل عمّان، تتعانق العمارة التقليدية مع لمسات عصرية، لترسم مشهداً يجمع بين البساطة والأناقة.
قلب عمّان النابض لا يكمن في جبالها فحسب، بل في "وسط البلد" حيث تختلط روائح البهارات بنغمات الباعة المتجولين؛ فالزمن يتنفس هنا بجناحين: واحدٌ نحو الماضي وآخرٌ يحضن الحاضر. هذه الشوارع الضيقة، التي كانت يوماً طريقاً رومانياً، تحوّلت إلى خزانة ذكريات تفتح أبوابها لكل زائر. بين دكاكين العطارة المكدسة بالكركم والزعفران، ومحال الأقمشة المعلّقة كأشرعة ملوّنة، يصير التجوال مغامرةً تذوب فيها الحدود بين اللغات والوجوه. سوق البخارية" يبدو كمن يبيع حكايات الماضي بقطع نحاسية صدئة، بينما تتهادى روائح الكنافة الساخنة من محالّ الحلوى العتيقة كرسالة شغف إلى الحواس.
في زحام السوق، لا يغيب نداء الباعة: "تعالَ يا غالي، افرش منزلك بطنفسة أردنية!"، وكأن كل سلعة تحمل قصّة تنتظر من يسمعها. حتى المقاهي الشعبية، بكراسيها البلاستيكية وقهوتها الكثيفة، تتحول إلى صالونات ثقافية حيث يمكن أن يلتقي شاب يصغي لأحدث الأغنيات بواسطة سماعات لاسلكية في أذنيه بعجوز حفرت السنون آثارها في قسماته وهو يقلّب سبحته مبتسماً، يتبادلان الحديث والضحكات. وسط هذا الفضاء، يصير الماضي شريكاً للحاضر، كأن المدينة تهمس: "هذا وجهي الذي لا يشيخ".
عمّان لا تنام، فلياليها حية بأصوات الشعراء والأدباء في "منتدى شومان"، وأنغام العود في "المعهد الوطني للموسيقى" وفي "أكاديمية الموسيقار طارق الجندي للموسيقى العربية" وأصوات الممثلين في "مسرح الشمس" وسواها من منابر الكلمة والنغم حيث تقام الأمسيات وتُلقى القصائد وتحلّق النوتات؛ فيغدو الفنّ رديفاً للهواء. المعارض الفنية، كـ"المتحف الوطني للفنون الجميلة"، تحوّل الجدران إلى نوافذ تطل على إبداعات إنسانية، تذكرنا بأن الثقافة هي الجسر الأهم والأمتن بين الشعوب.
في السنوات الأخيرة، انتشرت في شوارع المدينة مقاهٍ تتنفس ثقافة، مثل "رينبو ستريت" حيث رائحة البن تختلط بألوان الفن. المطاعم تقدم أطباقاً تزاوج بين المذاق الشامي واللمسة العالمية، وكأن المدينة تحوّلت إلى سفر جامع للذواقين. ولا نغالي في قولنا إن عمّان اليوم واحدة من العواصم العربية الحية والحيوية، رغم كثرة الهموم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ورغم وقوعها على خط الزلازل الإقليمية.
في غمرة التحولات المزدحمة في سماء عمّان، تطفو على السطح ظاهرة ال show off: سباقٌ نحو التميُّز بالمظاهر، ولهاثٌ خلف رنين العلامات الفاخرة، كأن امتلاك القطعة الأغلى هو جواز عبور إلى "نادي النخبة". هنا، تتنازع المدينة بين هويتها المتجذِّرة في البساطة، وإغراءات الحداثة الاستهلاكية الزائلة التي تلمع كواجهات المحالّ في العبدلي: ترى السيارات الفارهة تتزاحم عند إشارات السير، بينما يتهامس البعض في بعض أحياء جبل الحسين بشأن فاتورة فستان أو ساعةٍ "Limited Edition"، وكأن التفاخُر صار لهجة جديدة تُضاف إلى لهجات المدينة!
لكن عمّان لا تُختزل في بريق ذهبها. فخلف واجهات المقاهي العصرية التي تُقدِّم القهوة self service، ما زال كبار السنّ في المقاهي الشعبيّة يحتسون أكوابهم ببطء، كأنهم يرفضون انزياح الزمن عن إيقاع القلب. نعم، انتشرت علاماتُ التباهي بالماركات العالمية، لكنّ "سوق البخارية"، كما أسلفنا، ما زال يبيع النحاس العتيق بحكاياته، والمطاعم الشعبية ترفض أن تتخلّى عن صحن المنسف الذي يُقدَّم بكلِّيته من دون زخرفة.
رغم هذا التناقض تعلم عمّان أن بريق الذهب يلفت الأنظار، لكن قلوب الطيبين تدرك أن قيمة الإنسان لا تُقاس بحجم ساعته، بل بعمق كرمه. هنا، تُذكِّرنا الشوارع العتيقة والبيوت العريقة بأن المظاهر فقاعات زائلة، أما الأصالة فهي النهر الخفيّ الذي يُغذّي جذورها منذ آلاف السنين.
عمّان، كشقيقتيها دمشق وبيروت، تحمل في طياتها روح الشام. اللغة ذاتها، المذاق ذاته، حتى الألحان تتشابه؛ فالحروب في الجوار جعلت منها ملاذاً لكثير من المثقفين والفنانين. إذ استضافت فنانين من فلسطين والعراق وسوريا ولبنان، لتحيا الأمسيات على إيقاع العتابا اللبنانية والمواويل البغدادية والدحيّة الفلسطينية.
عمّان ليست مجرد عاصمة، بل هي قصة متجددة. فيها، يُعيد الماضي صناعة الحاضر، والزائر يصير أخاً. هي مدينة ترفض أن تُختزل في صورة، فهي بيضاء الرحابة، سمراء الكرم، ملوّنة بالثقافة، وحالمة كأغنية شامية تتردّد في أرجاء الجبال.
تغادر عمّان محمّلاً بذخيرة من الحب والترحاب، عائداً إلى بيروت، الواقعة هي الأخرى على خط الزلازل السياسية وفي قلب الأعاصير، وكلك أمل أن يحلّ السلام والاستقرار والازدهار والعدالة الاجتماعية في كل بلاد الشام، وأن تعود حواضرها متصلة متناغمة، وأن تنجو فلسطين من براثن المحتلين، ليكتمل عقد بلاد كانت على الدوام محط أنظار المستعمرين ومطامعهم المعلنة والمضمرة.