عن تولستوي وروائعه الأدبية

يتجه الباحث إلى سبر الظروف التي دفعت تولستوي إلى كتابة عمله الأبرز "الحرب والسلام".

  •  كتاب: تولستوي قمة من قمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا             
     كتاب: تولستوي قمة من قمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا             

في كتابه "تولستوي: قمّة من قمم الشوامخ في الأدب"، الصادر عن (وكالة الصحافة العربية 2025)، يقدّم المؤرّخ والناقد المصري محمود الخفيف (1909-1961)، دراسة فنية ونقدية لعوالم الأديب الروسي ليو تولستوي (1828-1910). إلى ذلك وبمذاقٍ وجداني خالص يكشفُ عن الأسباب التي أدت إلى ولادة وتكوين أديبٍ ضفر في كتبه بين الإنسانية والحياة الروسية على وجه الخصوص. ويرصد الكاتب الظروف التي دفعت أديباً بلغ منزلةً لم يتبوّأ مثلها إلا الأفذاذ من عمالقة الأدب والفن. وفي هذا السياق تتكشّف أسئلة كبرى عن حياة الكاتب الروسي وعن تلك الثغرات التي أثارتها زوجته في مذكّراتها إزاء دوافعه الذاتية للكتابة؛ حيث تمثّل حزمة من الزوابع التي وجّهت إصبع الاتهام لكاتب امتهن التواضع ليبلغ المجد. وقد وصفته الزوجة على أنه رغبة جامحة للظهور، وهي في نهاية المطاف جملة الدوافع التي تشي بتعطّشٍ عميق للفرار من بيته في الثانية والثمانين من عمره راغباً في قضاء أيامه الأخيرة في عزلةٍ تامة. 

من "سنايا بوليانا" القرية التي شرعت فيها حياة تولستوي يقود محمود الخفيف رصداً لطفولة صبي اكتشف بصورة صامتة فقدهُ لأمه، وما المرأة "تاتيانا" التي تهتمُّ به وبإخوته سوى حبيبة سابقة لأبيه، فهي تؤدّي مهمة الرعاية تجاههم بدافع أمومي خالص. إلّا أنّ الصمت الذي التقطه من ملامح أبيه مشبعاً بالغمّ كلما سأل عن أمه، أسهم في وضعه مبكراً أمام سؤال الموت. وهو ما دفعه لتشكيل صورة عنه كشيء مخيف يمُتنع عن ذكره، ويرهف السمع كلما تحدّث أحدهم عن الأم الغائبة. وعلى الرغم من الصمت الذي اكتنف طفولته، إلّا أنّ الباحث يقدّم الظروف التي تهيّأت لتولستوي بوصفه ابناً لعائلة أرستقراطية، فكان له ما توفّر من مربّين ومعلمين. وكانت له الحظوة ليتربّى في كنف أسرةٍ يعود الباحث في سبر نسبها إلى بطرس أندروفيتش تولستوي، كأول فرع سامق من الأسرة القادمة من ألمانيا، إذ أسهمت مشاركته في الحرب لاختياره وزيراً لبلاده في عام 1714. ومنه انطلق النسل الأرستقراطي لأسرة شغلت المناصب وامتلكت الضيع وصولاً إلى نيقولا وزواجه من الثرية، ماري فولكتسكي، والدة تولستوي الحقيقية.  

يرصد الباحث أثر المربّي الألماني تيودور رويسل كواحدٍ من الأشخاص الذين أثّروا في طفولة تولستوي. وهو باعتباره معلماً ظلّ أثره عالقاً سواء عبر الحوار والقراءة، أو بوصفه قدوةً أخلاقية رفيعة، وهو ما أدّى إلى التقاط الطفل ذلك الجانب الأخلاقي من سلوك أبيه، باعتباره سيداً ومالكاً، ذلك أنه على ترفّعه واستكباره على الفلاحين، كان عطوفاً لا يقبل بالعقوبة البدنية، ولا يرهقهم في العمل، ومن هذه النقطة يصل الباحث بنا إلى الصفات التي اكتسبها تولستوي من أبيه، ليظهر الابن طفلاً عطوفاً وكارهاً للعنف، راغباً في رعاية الآخرين وتعليمهم من غير أن يخسر اعتداده بنفسه أو يتخلّى عن الزهو الذي منحه إياه نسبه الرفيع. 

إنّ اقتناص اللحظات الأولى التي تضافرت بين تولستوي المراهق والكتب يبدي العزاء والمتعة اللتين وفّرتهما القراءة، ودفعته في الوقت ذاته إلى التهام الكتب والانكباب عليها ساعات طويلة. المراهق الذي عاش في خياله، غرق في قصص ألف ليلة وليلة، وقرأ بوشكين وأُعجب به، وتأثّر قلبه بالإنجيل وقصة يوسف النبي. وفي الخامسة عشرة من عمره، سَحَرَهُ جان جاك روسو حتى بلغ به الحدُّ استبدال صورة له بمن يضع على صدره صلباناً. وقد حذا به انغماسه الأدبي نحو الامتلاء بالفلسفة وحلّ ألغاز الوجود والانشغال بالنظر إلى الخلود وصلات البشر بالحياة الأخرى. تلك العوالم التي دفعت الشاب نحو الترنّح بين عوالم التشاؤم والتفاؤل، ذلك اللا استقرار دفعهُ للمضي بعيداً في البحث والدراسة ليتعلّق بالكمال مرة، وينحدر نحو الانحطاط مرة أخرى من خلال علاقته بالخادمة التي جعلت الندم يجثم على قلبه ردحاً من الزمن. 

يعود محمود الخفيف إلى الظروف التي دفعت تولستوي الشاب للانسحاب من دراسته في جامعة قازان والعودة إلى ضيعته؛ التي شكّلت نصيبه في الميراث بعد وفاة أبيه. وهي اللحظة التي ودّع فيها حياة اللهو والعبث ليقع في حب قريته وينمو لديه الشعور بالمسؤولية إزاءها وإزاء ما يعيشه الآخرون فيها. بيد أنّ التحاقه في الجيش ـــــ فرقة الفرسان ـــــ دفعه ليتخلّى مجدّداً عن دراسة القانون في جامعة بطرسبورغ والابتعاد عن القرية، وسرعان ما أبعدته الحرب عن فكرة العمل في الجيش والوظائف المدنية مجدّداً إلى القرية، ليغدو عاشقاً للفن والموسيقى. وهو ذلك الفن الذي كان له أن ينضج في روسيا وينتهي إلى ثورة نفسية جارفة، ويترك أثره العميق في النفوس رغم أنف الرقابة. وبالفن، لا بالأفكار المجرّدة، وليس بالدراسة المباشرة لمشكلات روسيا، قوّض الأدباء الروس صرح العهد القديم، وعلى ألسنة أشخاصهم التي خلقوها، وفي ميولهم عبّروا عمّا يريد كلّ روسي وأفصحوا عمّا شغل الأذهان من آراء في السياسة والاجتماع والاقتصاد. 

ومن هجرة الكاتب إلى القوقاز صحبة أخيه، يتجه الباحث إلى سبر الظروف التي دفعت تولستوي إلى كتابة عمله الأبرز "الحرب والسلام" إذ صمّم من خلاله مسرحاً هائلاً وهو مسرحٌ شمل البلاد ورقعة كبيرة من أوروبا، وأما الممثّلون فهم أباطرة ووزراء وضباط ثم أتى بالشعب الروسي كلّه؛ نبلائه وفلّاحيه. إنّ تلك المقدرة الفنية والجمالية على إبراز روح الملحمة في أكثر فصول الرواية تأثيراً، تركت لدى القارئ نغماً أشبه بما تتركه الأناشيد، ومن خلال مذكّراته نكتشف اعتقاد تولستوي بنجاح روسيا في ردّ نابليون على أعقابه، النجاح الذي لم يره وليد صدفةٍ، إنما ردّه إلى روح الشعب الروسي والجيش الروسي. وهو ما دفعه لدراسة التاريخ دراسة مفصّلة وأرهق نفسه إخلاصاً لفنه. وقد كتب ذلك في إحدى مذكّراته عام1864: "أنا غارقٌ إلى ذقني ولستُ أكتبُ شيئاً... إنك لا تستطيع أن تتصوّر مشقّة ما أنا فيه من عملٍ. ذلك العمل الإعدادي الذي يدفعني لأحرث حرثاً عميقاً مثل أن ألقي بذوراً". وإلى جانب دعم زوجته له، نكتشف دأب تولستوي على عمله طوال سنواتٍ ستّ، حيث قضى فيها كلّ يوم نحو ثماني ساعات حتى أتمّ القصة عام 1869 وسرعان ما ظفرت بنجاح هائل لم يظفر بمثله كتاب في روسيا. فكان أكثر ما عني بإبرازه من شخصياته هو الغرض من العيش، ومغزاه، وكيف يمكن للإنسان أن يحيا في العالم، فكانت "الحرب والسلام" عمل الفنان الذي يصوّر، والفيلسوف الذي يفكّر. 

ومن بيت أحاط به في أثناء كتابته رائعته "آنا كارنينا"، نطّلع على مكان تحوّل إلى عبء تجسّد بعلاقته المأزومة مع زوجته صوفيا تولستايا (1844-1919) إذ يذكر في مذكّراته سخريتها من جلسائه وازدراء الفقراء والمجهولين. وكرهها لأصدقائه ولا سيما شرتكوف، ذلك أنها وجدت في تولستوي ميلاً شديداً للأخذ برأيه ونصحه. وقد كتبت زوجته في مذكّراتها عن ذلك: "إنه يثير ثائرتي بعمله في إبعادي عن حياته الشخصية، إنّ هذا الجفاء يدفعني أحياناً إلى أعماق اليأس...". وقد تعمّدت الزوجة كما بدا في مذكّراتها إلى اتهامه بالغرور والأنانية "لقد كان يمزّق مذكّراته بعد أن أنقلها ليظهر أمام أطفاله وأمام الناس في ثوب القديسين فحسب... إنه غروره الفصيم...". وهنا تدفعنا صوفيا للتساؤل حيال شخصية زوجها الحقيقية ومقدار الصدقيّة أو الزيف اللذين كان عليهما، ولعلها كانت الوحيدة التي عرفته عن كثب، إذ بلغ النزاع أشدّ حالاته سنة 1891 حين أعلن أنه لن يأخذ ثمن مؤلفاته ورغبته في التنازل عنها. 

هكذا انطوت أعمال تولستوي على قدر كبير من جوانب حياته، وكثيرٌ مما جاء فيها أتى نتيجة لتجربته في الحياة، كنظرته للحياة الزوجية، وإلى العالم الخالي من الحكمة على أنه عالمٌ خالٍ من المعنى ومصيره الفناء. ليظلّ الفن أداته الفريدة، وشأنه في كلّ أعماله. بينما وجد بعض النقّاد أنّ آراءه فيما يخصّ الزواج تنمُّ عن غرابة، ولقد عزاها من يجهلون حياته إلى قصور جنسي من جرّاء إسرافه في الشهوة، فيما وصفها آخرون بعداوة الزوج الذي نجح في الوصول إلى ما كان يطمح إليه من نعيم. 

في ختام الكتاب يوثّق محمود الخفيف احتفاء البلاد بيوم ميلاد تولستوي الثمانين، الكاتب الذي بكى أمام فلاح نعته يوماً بالاستغلال والظلم بعد إجراءات زوجته التعسفية، والكاتب الكاره للطغاة، والمتكلّم الذي لم يفضّل الصمت، صرخ صرخته الأخيرة في وجه الظلم غير هيّاب وهرب من جحيم الشهرة والحظوة. لم يذعن لعالمٍ أراده على شاكلته، وحياته التي لم تخلُ من شقاء داخلي، ومظاهر عالمه الأرستقراطي، دفعته إلى الفرار. كتب وصيته ومضى رفقة ابنته في القطار من غير أن يحدّد وجهته، وصولاً إلى "أستابوفو" المكان الذي أمَّهُ الصحافيون والمصوّرون، ليقضي العظيم آخر أيامه ليس كما شاء، إنما قضاها والجميع يتجه إليه، وإن كان غير مدرك لكون من أحاط بغرفته المتواضعة في لحظاته الأخيرة كان العالمُ بأسره.

اخترنا لك