عيد "نوروز".. أسطورة "تموز" مستمرة!

تأثّرت الحضارة الفارسية القديمة بالحضارات الرافدينية بحكم الاحتلالات والقرب الجغرافي، ويقال إن الاحتفال بالعيد وأسطورة كاوا الحداد أخذ من الفرس، وكذلك الملك الضحاك فإنها أسطورة فارسية قديمة.

  • يتفق كتّاب كرد وعرب أن
    يتفق كتّاب كرد وعرب أن "كاوا" الكرديّ هو "تموز" السومري (رويترز)

تتراقص انعكاسات شعلة النار، في الـ 21 من آذار/مارس من كلّ عام، بأيدي جميلات بلادنا، ومع ألوان الربيع التي ستشعّ منها ثيابهن الفولوكلورية اللامعة، وزهور النرجس البرية المتفتحة إعلاناً للانقلاب الربيعي، واحتفالاً بعيد "نوروز"، وهي كلمة مركّبة تتألّف من "نو" بمعنى جديد بالعربيّة و"روز" ومعناها يوم لتصبح الكلمة يوم جديد.

و"نوروز" هو يوم يتساوى فيه الليل مع النهار، وهو مهرجان شعبيّ تموزيّ بامتياز تحتفل فيه شرائح كثيرة من شعبنا في المنطقة، وفي حين ترجع قصة هذه الاحتفالية إلى ما هو خياليّ وأسطوريّ عند البعض، إلّا أنّ البعض الآخر يرى فيها ما يجسّد ذكرى الثورة على الظلم، يوم قاد "كاوه الحداد" ثـورة على الملك "ضحاك" مع مجموعة من الشبان الثائرين.

وتكشف مدوّنات الأساطير أنها تحمل رونقاً حيوياً عميق الأثر تظهر تجلياته في كثير من يوميات شعوب الهلال الخصيب، وبعداً دينياً كذلك. إذ اشتملت على بنية مقدّسة كرّست بعداً وظيفياً زاخراً بالدلالة، وكانت الوعاء الذي تضمّن تصوّرات تلك الشعوب للخلق والتكوين، الموت والبعث، الزراعة والخصب.

والمعروف عن أسطورة "تموز" أنه في آخر مرة يذهب إلى أسفل الأرض ثم يأتي إلى وجه الأرض كـ"إله"، وأنه كان يحتفل بموت وحياة "تموز" في وطن سومر، وأنه في 21 آذار من كلّ عام كان السومريون يعقدون احتفالات كبرى في حياة "تموز" ويعرفون هذا اليوم بعيد "زكمك". والحادثة ذاتها ترد في ملحمة الشاعر الكردي أحمدي خان، "مم وزين" حيث يبدأ الملحمة بيوم نوروز 21 آذار/مارس، فهنالك شبه كبير بين قصة (تموز وعشتار) وقصة العاشقين (مم وزين). إذ تمتلئ حياة "مم" بالعذاب والفراق بعد معرفته حبيبته "زين"، وتصبح حياتهما مشابهة للحياة الكارثية لـ(تموز) الذي يذهب إلى الأسفل فيما يودَع "زين" في السجن إلى الموت.

ويذكر أنّ الحضارة الفارسية القديمة تأثّرت بالحضارات الرافدينية بحكم الاحتلالات والقرب الجغرافي. ويقال إن الاحتفال بالعيد وأسطورة كاوا الحداد أخذ من الفرس، وكذلك الملك الضحّاك فإنها أسطورة فارسية قديمة، وأكثر حضارة اهتمت بهذا العيد هي الحضارة الفارسية، خصوصاً الساسانية.

وأسطورة كاوا الحداد يذكرها المسعودي في كتابه "التنبيه والإشراف" تحت باب تاريخ الفرس القديم، والمعروف أنّ المسعودي زار بلاد فارس وتجوّل فيها. والقصة نفسها يذكرها الشاعر الفارسي أبو القاسم الفردوسي في ملحمة "الشاهنامة". 

إنّ تبنّي الاخمينيين لهذا العيد النهريني المقدّس، كان تبنّياً شبه كامل للحضارة البابلية، بما فيها الكتابة المسمارية واللغة الآرامية والفنون والبناء وطرق العيش.

وهنالك كتّاب كرد وعرب يتفقون على أنّ 21 آذار الذي يصادف اليوم الأول من "العام الكردي" ويمتدّ تاريخه إلى 700 سنة قبل الميلاد، كان يوم عيد عند السومريين، وأنهم كانوا يحتفلون به تحت مسمّى عيد "زكمك"، وأنّ "كاوا" الكرديّ هو (تموز) السومريّ.

ويوضح أستاذ التاريخ في جامعة صلاح الدين في مدينة أربيل، مولود إبراهيم ذلك بالقول إنّ: "الحضارة السومرية التي حكمت المنطقة من الأقوام الأوائل الذين اختاروا هذا التاريخ واحتفلوا به، وجعلوه بداية التقويم لديهم".

ما يعني أنّ لنا تاريخاً مشتركاً في الطقوس والأساطير والأعياد، وأنّ نوروز (كاوه) أو نوروز (سومر) الذي وحّد شعبنا آلاف السنين، سيبقى ينعش مشاعر المحبة والتآخي فيه، لأنّ سحر رموزه في اللاوعي الجمعيّ لشعبنا يبقى أبدياً!

من السومريين انتقل العيد للأكديين ومن الأكديين أخذه البابليون ثم منهم أخذه الآشوريون، لذلك فبداية السنة الكلدانية (البابلية) والسنة الآشورية تبدأ يوم 1 نيسان/أبريل، وتستمر الأعياد والاحتفالات لمدة 11 يوماً.

جميع حضارات العراق القديمة كانت تحتفل بالربيع وتكاد تكون بالطريقة والمفهوم والمناسبة نفسها. الاختلاف فقط في تاريخ الاحتفال فتنحصر الاحتفالات بحسب الحضارة بالفترة الممتدة بين 20 آذار إلى 1 نيسان.

ويشير الباحث العراقي سليم مطر إلى أن (21 آذار) بحسب التقويم العراقي القديم (الشمسي ـ القمري) يكون أوّل نيسان (نيشانو بالاكدي) لاختلاف 10 أيام بين الشمسي والقمري. وهو يوم المنقلب الربيعي وأول أيام السنة حيث برج الحمل (برج تموز). 

في هذا اليوم أول الربيع، يولد (تموز – إله الخصب الذكوري) بعد 9 أشهر من غيابه في ظلمات الأرض (رحم الأم)، ليأتي ويخصب (عشتار) آلهة الأرض والأنوثة، فتنبثق الحياة ويظهر الربيع.

وكان عيداً شعبياً ودينياً ورسمياً يدوم 10 أيام، حول (ماردوخ ـ سيد الوضوح، أي سيد النور) وابنه (نبو ـ النبي ـ الحكيم)، وفيه الكثير من طقوس الفرح.

وكانت فكرة العيد انتقلت إلى الفرس الأوائل (الإمبراطورية الأخمينية) حين فتح مؤسس الإمبراطورية الفارسية، قورش الأعظم، بابل عام (539 ق.م)، ومنها أخذ الفرس هذا العيد من الثقافة الرافدينية القديمة كموروث شعبي وتبنّوا الاحتفال به. وفي القرن الأول الميلادي، استعلموا تسمية (نيروز ـ اليوم الجديد) وهي ترجمة فارسية حرفية لاسمه السومري (زغموك ـ Zagmuk). 

انتشار المسيحية في العراق، ساهم في تناسي هذا العيد، لأنّ الكنيسة اعتبرته عيداً وثنياً. وقد حلّ محلّه (عيد قيامة السيد المسيح). أما تسمية (عيد القيامة) أي (قيامة المسيح) بعد صلبه مثل قيامة (تموز) وعودته إلى الحياة ليعود معه الربيع والخصب.

عندما أتى العرب المسلمون عرفوه باسمه الفارسي (نيروز) الذي كان متداولاً في العراق تحت الحكم الساساني الفارسي. واحتفلت به الدولة العباسية وانتشر اسمه في العالم الإسلامي بعد ذلك.

ويذكر البحتري، وهو أحد أشهر شعراء العرب في العصر العباسي، حدث النوروز في إحدى قصائده قائلاً:

"أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً

من الحُسن حتى كاد أن يتكلّما

وقد نبّـه النوروزُ في غلس الدّجى

أوائلَ ورد كـُن بالأمس نُوّما".

اخترنا لك