فاضل الربيعي: سجال مضادّ حتى النفس الأخير!

أثارت أعماله وأطروحاته جدلاً محتدماً في الأوساط الثقافية العربية. من هو فاضل الربيعي؟ وماذا قدّم لنا عن تاريخ اليهود في منطقتنا؟

طوى فاضل الربيعي (1952-2025) أول أمس السبت في أمستردام، آخر معاركه الفكرية التي لطالما أثارت جدلاً محتدماً في الأوساط الثقافية العربية. ذلك أنّ هذا الباحث العراقي الإشكالي، أماط اللثام عن مرويات ومحكيات تاريخية كانت بمثابة مسلّمات، واضعاً إياها في مهبّ أسئلة مضادّة، في محاولة منه إلى إعادة تصحيح السرديات التوراتية المزيّفة ونبذ تلفيقات بعض المستشرقين في ما يخصّ تاريخ المنطقة العربية وهويّتها، وإذا بنا حيال نظرة جديدة للتاريخ الرسمي بهتك ما أسماه "احتكار الفاجعة"، في إشارة إلى احتكار الحقّ في تصوير الضحية لنفسها بدءاً من "السبي البابلي" وصولاً إلى "المحرقة النازية". 

واعتبر الربيعي أنّ أصول هذه السرديات من نسج الخيال اليهودي بعد إخفاء فاجعة الآخرين. 

هكذا سعى صاحب "فلسطين المتخيّلة" إلى تفنيد الروايات التوراتية الزائفة وكسر احتكارها مؤكّداً أنّ السبي البابلي لم يحدث في فلسطين قطّ، وهو بذلك يشتبك مع أطروحة المؤرّخ اللبناني الراحل، كمال الصليبي، في كتابه" التوراة جاءت من جزيرة العرب"، الأطروحة التي اقترحت إعادة النظر في النظرة التقليدية لتاريخ بني إسرائيل (لا اليهود). وقال إنّ هؤلاء لم يقطنوا فلسطين، بل في بلاد عسير في شبه جزيرة العرب. 

يلخّص فاضل الربيعي أطروحته النظرية تحت عنوان "القدس ليست أورشليم" راسماً خريطة جديدة للوعي التاريخي لتتوقّف بوصلته عند اليمن وليس فلسطين.

القدس ليست أورشليم

  • أحد مؤلفات فاضل الربيعي
    أحد مؤلفات فاضل الربيعي

لعل هذا اليقين الكلّي هو ما أثار الرفض لدى بعضهم لمشروع هذا الباحث، لكنه أدار ظهره لكلّ ما ينفي أطروحته داعياً إلى تعميق الدراسات التاريخية النقدية وإعادة النظر في كامل الرواية التوراتية، "فجغرافية التوراة لا تنطبق على جغرافية فلسطين بأيّ صورة من الصور"، وهو ما حاول تفكيكه في كتابه الموسوعي "إسرائيل المتخيّلة: أرض التوراة في اليمن القديم"، مؤكداً أنّ النص التوراتي لا يتضمّن إشارة أو كلمة أو تلميحاً إلى أنّ القدس هي أورشليم، والحفريات التي قام بها علماء الآثار "الإسرائيليون"، وآخرهم إسرائيل فلنكشتاين، وهو رجل مختص في العصر البرونزي، أعلنوا نتائج أبحاثهم، وأكدوا أنه لا وجود لأيّ أثر عبري في فلسطين يدلّ على الرواية التوراتية. 

على المقلب الآخر يشير صاحب "عشاء المأتم" إلى مرجع مهمل هو كتاب الهمداني "صفة جزيرة العرب" بقوله إنّ: "ما وصفه الهمداني لجغرافية الأمكنة، يتطابق حرفياً مع نصوص التوراة العبرية". 

ويضيف متسائلاً "لماذا يصمت الآثاريون والمؤرّخون عن النقوش الحميرية التي عُثر عليها في مواقع فلسطينية؟"، هناك سبب صريح يوضح هذا الالتباس "لأنّ التاريخ العربي روي بصوت الآخر، وبتأثير القراءة الاستشراقية للتوراة التي رسّخت معتقدات زائفة، أطاحت المرويات العربية، وجرى إهمال ما رواه الطبري والمسعودي وابن الأثير باعتباره مرويات أسطورية، وهذا ما كرّس نظرة ازدرائية لنصوص الإخباريين العرب".

كشوفات مغايرة

  • مُعلّم وطلاب يهود في ريدة في اليمن عام 2008 (فرانس برس/ غيتي إيميجيز)
    مُعلّم وطلاب يهود في ريدة في اليمن عام 2008 (فرانس برس/ غيتي إيميجيز)

انطلاقاً من هذه الكشوفات المغايرة، يصل الربيعي في أطروحته إلى استنتاج راسخ وهو أنّ اليهودية دين عربي قديم، وأنّ التوراة كتاب من كتب اليمن، وأنّ أورشليم ليست هي القدس، ومكانها في اليمن وليس في عسير، كما قال المفكّر الراحل كمال الصليبي في كتابه "التوراة جاءت من الجزيرة العربية". 

أما السبب فأنّ عسير لا تتسع كمسرح للأحداث، وينبغي توضيح الفرق بين بني إسرائيل كقبيلة من جهةٍ، وكدين من جهةٍ ثانية. لكن ألا تحتاج هذه الرؤية إلى خلخلة ما رسّخه المخيال الاستشراقي عبر مئات الأبحاث التي باتت وقائع تاريخية؟ 

يقول الربيعي: "ليس لديّ أية أوهام بأنّ هذه الأفكار ستنتصر قريباً، بوجود قوّة إعلامية هائلة تهيمن على السرد التاريخي. يكفي أن نسعى إلى كتابة تاريخنا من منظور نقدي، بعيداً عن الأكذوبة الاستشراقية، ولعلّ ما أنجزه إدوار سعيد في هذا السياق خلخل هذه النظرة إلى حدّ كبير". 

هذا النسف المضاد للأطروحات التاريخية لا يتوقّف عند تاريخية فلسطين، بل يتعدّاه إلى قضايا شائكة أخرى. في كتابه "أبطال بلا تاريخ" يميط اللثام عن شخصية امرئ القيس، ليكشف عن 24 شخصية تحمل هذا الاسم بصفات مختلفة، فهل هو الشاعر، أم الملك الضليل، أم الفارس؟  يعيد سبب هذه الضبابية في تدوين تاريخ الشخصيات إلى أخطاء المرويات الشفاهية التي انتهت إلى دمج كل هذه الصفات بصاحب معلّقة "قفا نبكِ"!

تفنيد الأسطورة

  • غاب فاضل الربيعي وفي رصيده نحو 40 كتاباً في التاريخ والاسطورة والديانات القديمة
    غاب فاضل الربيعي وفي رصيده نحو 40 كتاباً في التاريخ والأسطورة والديانات القديمة

استغراق فاضل الربيعي في تفنيد الأسطورة، وتصفيتها من شوائب الخرافة، ونسل الخيوط التاريخية من نسيجها، يبدو للوهلة الأولى كمن يحرث في الماء، لكنّ صاحب "يوسف والبئر" لا يعبأ بهذه المعوّقات، استناداً إلى وقائع تاريخية تنطوي على دلائل مهملة في خزانة التراث العربي، وفي المكتشفات الأثرية التي يجري التعتيم على بعضها، وفي قراءة الشعر الجاهلي من منظور مختلف بوصفه معجماً ثرياً للأمكنة التاريخية. 

قبيل رحيله بسنة واحدة تمكّن فاضل الربيعي من تأسيس مركز للأبحاث في أبو ظبي بعنوان "مجتمع للدراسات التاريخية والثقافية" في مغامرة منه لإطلاق مدرسة للأنثروبولوجيين العرب، تؤسّس تياراً جديداً لنسف الأطروحات الاستشراقية، ودحض مقولاتها الزائفة، وتأصيل مناهج بحث تاريخية في الجامعات لزعزعة النظرة القديمة للتاريخ العربي والإسلامي.

غاب فاضل الربيعي وفي رصيده نحو 40 كتاباً في التاريخ والأسطورة والديانات القديمة مثل "الشيطان والعرش: رحلة النبي يوسف إلى اليمن"، و"جبريل والنبي"، و"بنو إسرائيل وموسى لم يخرجوا من مصر"، "الألغاز الكبرى في اليهودية"، بالإضافة إلى أعمال قصصية وروائية كانت عتبته الأولى في الكتابة، إلى أن أنجز انعطافة كبيرة في العمل كمؤرّخ بزوابع سجالية بلا ضفاف من طريق الهدم وإعادة بناء الوقائع التاريخية. 

اخترنا لك