كتاب وسيم سعيد من غزة: "شهادة من جحيم الإبادة"
"لم يكن سؤالنا هل سنموت أم نحيا؟، بل كان بأيّ طريقة ستقتلنا الوحوش. كانت أمنيتنا جميعاً أن نموت سريعاً بدون معاناة وألم، كانت أمنيتنا أن تبقى جثثنا مكتملة".
-
كتاب وسيم سعيد من غزة: "شهادة من جحيم الإبادة"
تردّدتُ كثيراً قبل أن أخوض مغامرة قراءة كتاب "شهادة من جحيم الإبادة" للكاتب الغزاوي وسيم سعيد، الكتاب صدر حديثاً عن أكاديمية دار الثقافة بالتعاون مع الفارابي ـــــ بيروت، وهو كتاب توثيقي ليوميّات الإبادة الصهيونية في غزة، كُتب تحت القصف والغارات ومن قلب خيمة النزوح، فنجد كاتبنا الشاب وسيم سعيد يروي تراجيديا الإبادة كشاهد عليها.
حملتُ الكتاب في يدي ووضعتهُ في حقيبتي بعدما أخذتهُ من مكتبة أكاديمية دار الثقافة في بيروت، وبعد سلسلة من التردّدات النفسية كلما أمسكتُ بهِ، قرّرتُ أخيراً أن أقرأهُ، أن أقرأ شهادة من جحيم الإبادة، شهادة تختلف تماماً عمّا نشاهدهُ في الأخبار وما يصلنا عبر الصورة والكاميرا، إنّها كتابة مبلّلة بالطحين والدم من مسافة صفر، يُهدي الكتاب إلى الشهداء والجرحى وإلى الشعب الفلسطيني وما تعرّض لهُ من إبادة جماعية لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، ويؤكّد لنا بأنّها ليست مجرّد رواية أو قصة يرويها الكاتب من نسيج خياله الرحب، بل هي كتابة مختلفة، هي كتابة "فعل وجود"، ونلاحظ مع كاتبنا كيف يقاوم وجودهُ بالكتابة، يضع كتابة هذه الشهادة أمام المجازر التي تحصل كلّ ساعة في غزة، ويكتبها على الأوراق في خيمة نزوح، ويجمع شهادات من الناس التي تعرّضت للإبادة والجوع والموت اليومي.
وأنا أقرأ في الشهادة، كأنّني أعيش معهُم هناك، ولا أستطيع تخيّل حجم الإبادة الصهيونية الكبرى لشعبٍ محاصر بالأسلاك والنّار، ومن جهةٍ أخرى، قدرة هذا الشعب على الصمود والمقاومة، وحبّ الحياة وصناعة المستحيل أمام هذا الإجرام الوحشي المستمر. كما يصوّر الكتاب أسطورة غزّة التي حرّرت العالم وغيّرت مجرى تاريخه، ووضعت العالم أمام مسؤولياته الإنسانية الكبرى، ولعلّه أقوى كتاب توثيقي على الإطلاق والشاهد الأوّل على حرب الإبادة الصهيونية في غزّة، يقول في صفحة رقم "37":
"لم يكن سؤالنا هل سنموت أم نحيا؟، بل كان بأيّ طريقة ستقتلنا الوحوش. كانت أمنيتنا جميعاً أن نموت سريعاً بدون معاناة وألم، كانت أمنيتنا أن تبقى جثثنا مكتملة بعد قصفنا لقد سلكنا شارع الرشيد وهو الشارع المجاور لشاطئ البحر، لا يمكن أن أنسى ذلك اليوم، لقد كانت البارجة في بحرنا كالوحش".
هذا المشهد يصوّر لنا لحظات القتل الوحشيّ الذي كان ينفّذهُ العدو الصهيوني، جوّاً وبرّاً وبحراً، وكان كاتبنا وعائلته يتمنّون الموت من دون ألم، ولا نستطيع تخيّل هذا المشهد الفظيع معهم، وهذا ليس مشهداً فقط، لعائلة واحدة في غزة، هذا مشهد من المشاهد التي تحصل كلّ يوم من المذبحة اليومية التي يتعرّض لها الناس في غزة، والفرق الوحيد أنّ الكاتب وسيم سعيد استطاع كتابة تفاصيل شهادته، لو كتب الناس جميعاً شهاداتهم في غزة، لقرأنا الكثير والكثير من مسلسل الذبح اليومي، وتفاصيل لم نشاهدها من قبل، لأنّها تُكتب بالدم وبأصابع تنزف، ويتميّز الكاتب الذي يكتب من جحيم الإبادة عن كاتبٍ يكتب من خارج الجحيم، لكنّ الذي يقرأ يجب أن يعي هذا المفهوم، في التقاط التفاصيل من الأحداث، والدموي يسيطر على كلّ حرفٍ والوحوش الصهاينة يرتكبون الجريمة الكبرى التي لا تتوقّف.
أكثر ما يلفت وما يحزن في الشهادة توثيق مرحلة البحث عن الطحين، وحين امتزج الطحين بالدم، كلّ الناس تبحث عن الطحين وبعد معارك مع القتل والقصف والتجويع، لا يحصلون عليه، والبعض منهم يحصل على كمية قليلة جداً منه، ولا يستطيع الإنسان تخيّل ما يحصل لأخيه الإنسان الآخر في غزة ولا يستطيع فعل شيء، يعني حين نقرأ هذه السردية التي كتبت من جرح الضحية ذاتها وهي تروي روايتها، نصاب بحالة ذهول من هول ما يحصل، يقول الكاتب:
"رفعتُ الكيس لأخي، فأخرج سكيناً، وشقّ الكيس العالق، وبدأ يحمل الطحين بيديه ويعبّئه في الكيس الذي كنت أجري به، كنتُ أسرع من الشاحنة في ذلك اليوم...
ثمّ نظر إليّ وقال: أتدري، يا وسيم؟ بعد أن عدنا، وجدنا بعض الطحين اختلط بالوحل، فصار عجيناً".
كما تقدّم الشهادة حقائق كثيرة عمّا حصل ويحصل، وكشف حقيقة التفاصيل التي حصلت هناك، لأنّ العدو الصهيوني اشتغل على تزوير الحقائق وغيّر مسارها، ووضع الضحية مكان الجلّاد، وللتخفيف من هول ما جرى، فهو يرتكب المجازر ويخلق معها سردية خاصة به، سردية كاذبة، فأتى هذا الكتاب كي يدافع عن الحقيقة الكاملة بكلّ تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، وكاتبنا وسيم سعيد يعي هذا المبتغى جيداً، فهو كتب من شدّة التوحّش الدموي الذي عاشهُ، فهو أراد أن يكتب كي يقدّم الحقيقة وينقلها إلى العالم، كمن يصرخ في الصحراء أو كمن يدقّ جدران الخزّان كما قال غسان كنفاني، لكن هل من مجيب في هذا العالم الصامت عن هذا التوحّش؟؟ ويريد أن يترك وراءهُ أثر الصرخة إذا استشهد، وهو يكتب ويعيش هاجس الاستشهاد في أيّ لحظة، ذكر كثيراً هذا التوجّس بين الحياة والموت، وكان يقول دائماً، بأنّ القصف الصهيوني كاد بين ليلةٍ وضحاها أن يقصفه شخصيّاً هو وعائلته، وكما ذكر بأنّ القصف أودى بحياة الكثير من عائلته، ووصف بشكل موجع جدّاً براءة الأطفال الذين يعانون من الجوع والقصف والحصار وعدم النوم والبكاء والمعاناة في الليل، ويختم بصورة الأوراق التي كان يكتبها ويجمعها في الخيمة، ويؤكّد أنّها شهادة من جحيم الإبادة وكتابة على وقع الغارات.
ونشير هنا أنّ كتاب "شهادة من جحيم الإبادة" للكاتب وسيم سعيد سيترجم لعدّة لغات عالمية وينشر في أغلب دول العالم.