كي لا تتكرّر نسخة جديدة من "باب الحارة"!

يتساءل كثر عمّا فعل هؤلاء للبلد، ولماذا ينبغي أن ندفع لهم فواتير البطولات وأنواط الشجاعة ونقيم المناسف مقابل بطاقة زيارة لمدة أسبوع لا أكثر؟

ليس العطش التاريخي لحرية التعبير عن ذات مقموعة وحده، هو الذي حرّك المياه الراكدة في الفضاء السوري الكتيم. هناك العطش الشخصي للظهور والوجاهة الثورية، ذلك أنّ الوصفة لا تحتاج إلى عناصر صلبة.

إذ تكفي حفنة من التوابل البلاغية لإشعال الموقد وإثارة انتباه الآخرين للسلعة المطلوبة بقصد تسويقها كأفعال مضارعة غير قابلة للريبة: صورة في ساحة الأمويين إلى جوار نُصب السيف الدمشقي، "بودكاست" في أحد المواقع الإلكترونية، بوست في "فيسبوك" تسيل منه دهون اللحظة الرائجة على هيئة علم أخضر بثلاثة نجوم يحيط العنق. إكسسوارات مستعارة من بسطات الأرصفة تكفي لخوض النهر والالتحاق بركب سوريا الجديدة، ولكن مهلاً، أين اختفى أولئك الذين هطلوا بالباراشوت واحتلّوا الساحات والمقاهي والفنادق؟

أسبوع من "السياحة الثورية" ثمّ العودة إلى "جنّة المنفى". لقد انتهى وقت العراضات الشعبية في استقبال هؤلاء، واختفت حشود ندوات المقاهي بعد تصدير كلّ ما لديهم من مصطلحات ترضي النخب: الديمقراطية، والعلمانية، والدولة المدنية، وحقوق المرأة، وحماية الأقليات، ثم انفضّ السامر، مثل أي سيرك آخر، بحبال مشدودة.

لم يغامر هؤلاء بالصعود في ميكروباص إلى الضواحي القريبة لفحص معنى العيش في العتمة وصقيع الشتاء والبيوت المهدّمة، والحلم بسلّة غذائية، وتقليب صفحات قوائم المفقودين. علينا أن نعذرهم إذ لا وقت لديهم لتلويث حواسهم بشكاوى الناس العاديين ومكابداتهم، فبرنامج الزيارة لا يحتمل مثل هذه الترّهات، فهم مشغولون بصنع نسخة سويسرية من سوريا بصرف النظر عن العقبات، فالمهم "سرقة الحصان لا الرسن".

نُخَب مثقلة بالأسئلة القديمة والمكرّرة التي لطالما ثَبُت بطلانها وعدم واقعيتها ولا جدواها. ذلك أنّ الشارع العمومي في جهة، وأمراض النخب في جهةٍ ثانية. ففي نظرة لتاريخية الأحزاب والتيارات سنواجه شعارات جوفاء لا أكثر، وميراثاً غارقاً بالأخطاء والمتاريس والفخاخ. أظنُّ أنّ الرجل الذي وعد ابنته بوجبة عشاء من البطاطا المسلوقة، ثم رفض البائع أن يزن نصف كيلو منها مرفقة بشتيمة، ثم تعثّرُ خطوات الأب وتهاوي جسده على بعد 5 خطوات من عربة البائع لثقل الإهانة، تعادل طنّاً من الهراء الأيديولوجي المستعمل!

المفارقة أن طريقة استقبال معظم النخب الوافدة من "المنفى" بالعراضة الشامية تحيل إلى لحظة ماضوية مقتبسة من مسلسل "باب الحارة" أكثر منها تعبيراً عن لحظة حداثية، كأننا حيال عودة" الزعيم" إلى الحارة، أو "العكيد" أو "الحلّاق" بعد اختفائه الغامض. أجل لقد شاهدنا ما يشبه "أبو بدر" في المسلسل إياه وهو يتصرّف كبطل في الساحات! يتساءل كثر عمّا فعل هؤلاء للبلد، ولماذا ينبغي أن ندفع لهم فواتير البطولات وأنواط الشجاعة ونقيم المناسف مقابل بطاقة زيارة لمدة أسبوع لا أكثر؟

ما حدث فعلاً أن هؤلاء أتوا لاقتسام الغنيمة أكثر من حرصهم على المساهمة في بناء البلد وتحمّل أعباء الخراب ومشقة العيش. كان المشهد أشبه بإطلالة المغنّين في حفلات الأعراس ثم التواري التام بعد أن تحقّق الهدف، وآهات "الله يا ست" من حناجر الحشود.

هناك معضلة أخرى كانت تتسلل من شقوق الجدار المائل، إذ افترض هؤلاء "المخاتير" أنهم من يمنح شهادة "حسن سيرة وسلوك" لمن صمد طوال العشرية السوداء في ما تبقّى من الوطن، في أحلك الظروف وأسوأ أنماط العيش، وأقسى أنواع حفظ الكرامة، وأصعب أسباب النجاة.

الآن وقد تكشّف المشهد عن حجم الخسارة والأمراض المزمنة، ينبغي تبادل الكراسي في محاكمة مضادة، أو أقلّه الخروج من المباراة بالتعادل السلبي، وإطاحة كلّ أنواع الريبة المتبادلة، وحراثة الأرض المالحة والزلقة لتجفيف طبقات السبخ، وذلك للعبور نحو تضاريس أخرى خالية من الألغام والمفخخات والقذائف تحت سماء صافية وخريطة واحدة لا تمزّقها الرايات المختلفة والأحلام الطوباوية للقبائل والطوائف والإثنيات المتصارعة فوق مقبرة جماعية وكومة عظام!

نريد هذه الفسيفساء السورية بكلّ مكوّناتها داخل جدارية واحدة، من دون أن نطلس الجدران المهدّمة بالطلاء الأبيض والأكريليك المغشوش ومحو طبقات العار كيفما اتفق، كي نبدأ نهارات جديدة وشمساً تضيء كلّ الجهات.

اخترنا لك