كيف سيطر الدولار الأميركي على الاقتصاد العالمي؟
-
كتاب "سطوة الدولار" لدارشيني ديفيد
*"تمّ إطلاق كلمة ثالر thalerعلى العملات المعدنية الأولى المسكوكة من مناجم الفضة في عام 1519 في وادي يواخيمستال (وادي يواخيم) في بوهيميا. لذلك سمّيت وحدة العملة الأميركية باسمها. خلال القرن الخامس عشر اشتهرت مدينة يواخيمستال البوهيمية، التي كانت جزءاً من إمبراطورية شارل الخامس (الإمبراطورية الرومانية المقدّسة) بمناجم الفضة. في عام 1519 أصبحت العملات المعدنية الأولى المسكوكة من ذلك المعدن الشكل الرئيسي للعملة المستخدمة في التجارة في جميع أنحاء أوروبا، وكانت تلك العملات تسمّى في الأصل يواخيمستالر "joachimsthaler" ولكن تمّ اختصارها لاحقاً إلى تالر. وهذه العملة كانت موجودة في ألمانيا منذ القرن السادس عشر مع اختلافات بسيطة في النطق daler،dalar.daalder،thallero واستمر تداول هذه العملة في ألمانيا حتى عام 1873 عندما تمّ استبدال التالر بالمارك كوحدة نقدية ألمانية. ومع مرور الوقت باتت كلمة "تالر" تطلق على عملات معدنية أوروبية أخرى لها الوزن والجودة نفسيهما، مثل العملتين الإسبانية والبرتغالية. وعندما حصلت أميركا على استقلالها في عام 1792 قرّرت اعتماد "الدولار" المكوّن من 100 سنت كاسم لعملتها بدلاً من "الجنيه الإسترليني". في عام 1861 صدر الدولار الورقي في الولايات الأميركية، وتظهر شخصيات سياسية على فئات مختلفة منه. فالدولار الواحد "جورج واشنطن" ودولاران "توماس جيفرسون" وخمسة دولارات "أبراهام لونكلن" وعشر دولارات "ألكسندر هاملتون" وعشرون دولاراً "أندرو جاكسون". ومئة دولار "بنيامين فرانكلين" و5 آلاف دولار "جيمس ماديسون".
رُسّخ مركز الصدارة الذي يحتله الدولار في عام 1944 في أحد الفنادق في جبال نيوهامبشاير، حيث تمّ عقد مؤتمر يهدف إلى إرساء قواعد الاستقرار المالي الدولي، وصيغ الاتفاق ـــــ الذي سمّي على اسم موقع الفندق "بريتون وودز" ـــــ تحت هيمنة مسؤولين أميركيين. وُضع الدولار باعتباره العملة الاحتياطية الدولية، وهذا يعني أنه أصبح العملة الرسمية للتجارة العالمية: أي العملة التي سيجري التعامل بها في الكثير من أنشطة التجارة الدولية.
ربطت قيمة معظم العملات ضمن نطاق من الأسعار مقابل الدولار. وبدوره ثبتت قيمته مقابل قيمة الذهب، وفرضت ضوابط صارمة على تحويل الأموال للحيلولة دون اضطراب هذا النظام الجامد. أنشئ صندوق النقد الدولي، جزئياً لمراقبة عدد الدولارات التي طبعتها الولايات المتحدة الأميركية. كان الهدف هو ضمان الاستقرار، وبالفعل يعتبر الدولار العملة الاحتياطية الرئيسية ـــــ فهو يشكّل 70% من النقد الذي تحتفظ به البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم ـــــ وهو العملة الموحّدة في النشاط التجاري. ومع بقاء الدولار متربّعاً على عرش العملات، ينظر إلى السندات الحكومية الأميركية على أنها الأكثر شهرة والأكثر أماناً في امتلاكها. ومع ذلك، ثمّة تكهّنات بأنّ الأهمية المتزايدة للصين تعني أنّ " اليوان" قد يحلّ محلّ الدولار على قمة شجرة العملات. فمدخّرات الصين توفّر لها دخلاً آمناً وثابتاً لدعم سلطتها المتنامية، كما أنه يمنحها القليل من السيطرة على أميركا.
نظراً لأنّ الدولار هو العملة الأكثر موثوقية على وجه البسيطة، فقد أصبح أداة قوية لإنشاء الاقتصاد العالمي الذي نحن جزء منه، شئنا أم أبينا. إنه واجهة الاستقرار "وعدم الاستقرار" المالي العالمي. وحجر الزاوية لبقائنا (أو عدم بقائنا). إنه اللغة المالية التي تعدّ أساساً لحياتنا جميعاً. أياً كانت العملات الورقية والعملات المعدنية التي نستخدمها يومياً. إنّه يدلّ على مدى ترابط مصائرنا جميعاً. وباختصار، قد ننظر إلى الدولار على أنه أداة العولمة، التي توزّع الرخاء، ولكن ليس على الجميع.
الدولار واجهة القوة الأميركية والمصالح الأميركية، وهو لا يجلب القوة الشرائية فحسب، بل يجلب النفوذ، فامتلاك دولار، أو عدم امتلاكه، يمكن أن يملي الطريقة التي تعيش بها الشعوب على الجانب الآخر من العالم. وهو أكثر مخازن القيمة ثقة في العالم.
يطلق على الاقتصاد أحياناً العلم الكئيب. ولكن يمكن أيضاً وصفه بالعلم الذي تحتكره فئة معيّنة. يعقد المنتدى الاقتصادي العالمي اجتماعه السنوي الذي يقتصر على الأشخاص المدعويّين فقط من كبار رجال الأعمال وقادة الحكومات في دافوس، وهي بلدة نائية تقع في جبال الألب السويسرية، ويأتي المندوبون من كلّ حدب وصوب، والغريب في الأمر هو استقدام نجوم هوليود اللامعين مثل أنجيلينا جولي، وليوناردو دي كابريو للمشاركة، بغية إضفاء زخم إضافي على الحدث. بات مصطلح "رجل دافوس" (وما زال أغلبهم من الرجال) كلمة عامية تطلق على عضو النخبة العالمية. إنّ مناقشات هؤلاء الرجال والتي تجري في قائمة المؤتمرات أو الدهاليز أو أثناء تناولهم المشروبات هي التي تدعم القرارات التي تتحكّم في مصائرنا. قد يكون رجال "دافوس" هم الذين يحرّكون الأمور من وراء الستائر لكنّ فهمنا للآلية التي يعمل فيها النظام من شانه أن يمنحنا جميعاً المزيد من السلطة.
مع الارتفاع الحادّ لأسعار النفط، زادت الأرباح التي جنتها الدول المنتجة للنفط بشكل سريع، وسرعان ما أصبحت هذه الثروة تعرف باسم "البترودولارات" وتعني الدولارات العائدة من تصدير النفط. وبمرور الوقت زاد استثمار حكومات تلك البلدان للدولارات العائدة من تصدير النفط بطرق معقّدة، وشمل ذلك إعادة الدولارات إلى الولايات المتحدة عن طريق شراء السندات وما شابه ذلك، تماماً كما فعلت الصين مؤخّراً بالدولارات التي بحوزتها. إذ تعتبر مشترياً مهماً للسندات التي تصدرها أميركا والمعروفة باسم سندات الخزينة الأميركية، حيث تحتفظ الصين بتريليونات الدولارات من هذه السندات وعند الحاجة إلى الأموال تستطيع بيعها مقابل فائدة 1%.
أدركت الحكومات في جميع أنحاء العالم أنها ستحتاج إلى إمدادات ثابتة من الدولارات إذا أرادت شراء النفط، لذلك كانت الحكومات أكثر ميلاً إلى محاولة موائمة عملاتها مع قيمة الدولار. فبالنسبة إلى بلدان مثل العراق والهند وهي البلدان التي امتدت صداقاتها وعلاقاتها التجارية لقرون، فإنّ تسعير النفط بالدولار يجعل العملية برمّتها مرهقة. لذا فإنّ شركة هندوستان للبترول تشتري براميل من نفط البصرة الثقيل، ويستورد العراق بالمقابل الأرز والجرارات والأدوية من الهند من دون تدخّل النفط والقدرة المطلقة للدولار.
عندما استولت الجماعات الإرهابية على حقول النفط العراقي بطاقة إجمالية 60 ألف برميل يومياً، وعلى الرغم من عدم تمكّنها من الوصول إلى حقول البصرة في الجنوب، إلّا أنّ التأثير لا يزال هائلاً، إذ تشير بعض التقديرات إلى أنّ "داعش" كانت قادرة على جني 700 ألف دولار يومياً من بيع النفط الذي استولت عليه، وسمحت لها هذه الأموال بتجنيد المقاتلين وتسليحهم ودفع رواتبهم في المنطقة وفي الأماكن الأخرى.
كانت للعراق علاقة طويلة الأمد مع روسيا، ففي عام 2014 أعلنت روسيا أنها على استعداد لتزويد العراق بالأسلحة لمحاربة الإرهاب. هذا هو المكان الذي يلجأ إليه العراق في وقت الحاجة، ويرسل دولاراته إليه، حيث ينفق الدولار على شراء الأسلحة بدلاً من النفط. إنّ دولار العراق هو مجرّد واحد من مليارات الدولارات التي تحصل عليها روسيا الآن من مبيعات الصناعات الدفاعية في الخارج، فروسيا تأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة فيما يتعلّق ببيع الأسلحة، ومثل العديد من السلع تسعّر الأسلحة في أغلب الأحيان بعملة التجارة الدولية أي بالدولار. لم يكن سباق التسلّح في الحرب الباردة يتعلّق بالأسلحة التقليدية والقنابل اليدوية فقط: إذ كان اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية يستثمر أيضاً بكثافة في الأسلحة النووية والأسلحة الكيمائية وغازات الأعصاب. وفي نهاية تلك الفترة، كانت روسيا تمتلك أكبر مخزون من الأسلحة في العالم.
يأتي ما يقارب 70 % من أسلحة العالم حالياً من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والمملكة المتحدة وروسيا، ولكن مع تغيّر قوة تلك الدول تتغيّر كذلك قبضتها على صناعة الأسلحة، ففي المستقبل القريب غير البعيد ربما يرسل العراق دولاره إلى الصين بدلاً من ذلك.
حرمان روسيا من الدولارات:
في آذار/ مارس من عام 2014 ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم ومارست تدخّلاً عسكرياً في أوكرانيا: لذلك قرّر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلفاؤها ضرب روسيا في الصميم أي في اقتصادها، وفرضوا عليها عقوبات اقتصادية: قيود على الواردات مثل الأسلحة أو المعدات اللازمة لصناعة النفط، وتجميد الحسابات المصرفية والأصول الروسية الأخرى في الخارج. وكانت الفكرة في الواقع هو حرمان روسيا من الدولار.
في هذه العجالة من مراجعة كتاب "سطوة الدولار"، تبيّن لنا المؤلفة الرحلة الكبرى للدولار الأميركي لفهم طبيعة الاقتصاد العالمي برمّته. وفي النهاية نقول: يضمن التاريخ والتجارة والسياسة والنظام المالي الراسخ هيمنة الدولار أياً كان مكانك في العالم.