متى يفصح العرب عن فصاحتهم؟
جذبَتْ هذه اللغة الحسناء الأعاجمَ قديماً وحديثاً، ولم يقتصر الخوض في أبواب سحرها على الناطقين بها، فلقد ورد الكثيرون إلى نهرها ليَبلُّوا الصّدى من "قطر الندى"، وعرجَ الذوّاقون على زهورها ليرشفوا من رحقيها.
تدهشُنا مجموعة من اللغات حول العالم. هناك لغاتٌ فيها موسيقى تظنّ أن الشعوب الناطقة بها تغنّي، وهناك لغاتٌ سهلة حفظنا بعض كلماتها من الأفلام والمسلسلات، وهناك لغات ثقيلةٌ وصعبة، وبعضها كثير الحروف، حتى إن أول ما يخطر في ذهنك مثلاً كيف أنّ طفلاً صينياً سيحفظ أكثر من 500 حرف، أو بتعبير أدق أكثر من 500 شكل، كلٌّ منها يرمز إلى مقطع صوتي، أو تتحيّر كيف سيجدون حاسوباً تتّسع لوحة مفاتيحه لكل تلك الحروف!
كلامي ليس بشأن اللغة الصينية ولو أنها جذّابة للتعرف إليها، وخصوصاً مع ريادة الصين اليوم وبروزها في النظام العالمي الجديد. لكن حديثي عن اللغة التي لا تنفكّ تدهشنا، بل تسحرنا، لا في الحرف والتركيب والموسيقى، أو الغزارة في الجذور والمفردات فحسب. إن الغوص في بحر لغة الضاد يجعلك تتساءل عن العقل العبقري الذي أبدع وعاءً يحمل وحياً عجزت عن حمله الجبال ومنبعاً للفكر والإبداع في كل زمان وفي شتّى العلوم! أيّ عبقريّ؟
يقول الكيميائي والمؤرخ البلجيكي - الأميركي، جورج سارتون: "وهب الله اللغة العربية مرونةً جعلتها قادرةً على أن تدوّن الوحي أحسن تدوين بجميع دقائق معانيه ولغاته، وأن تعبّر عنه بعباراتٍ عليها طلاوة وفيها متانة".
جذبَتْ هذه اللغة الحسناء الأعاجمَ قديماً وحديثاً، ولم يقتصر الخوض في أبواب سحرها على الناطقين بها، فلقد ورد الكثيرون إلى نهرها ليَبلُّوا الصّدى من "قطر الندى"، وعرجَ الذوّاقون على زهورها ليرشفوا من رحقيها، فهذا سيبويه الفارسي يترك "رائحة التفاح" وينجذب إلى شذا اللغة فينحو نحوها بطريق الإبداع. وجاء كشّافُ الزمخشري يكشف عن "أساس بلاغتها" وبعض روعتها. والعشاق والعرفاء يدخلون حانتها ليسكروا من خمرها كما فعل "لسان الغيب" الشيرازي.
صحيح أن اللغة العربية هي من بين أكثر 6 لغات انتشاراً عالمياً، ولها قداستها عند المسلمين انطلاقاً من أنها لغة الوحي، وتركت أثراً كبيراً في لغات متعددة، كالفارسية والتركية وغيرهما، ونقلت معارف وفلسفة وعلوماً من اليونان إلى أوروبا في عصر النهضة، وسادت قروناًن الزمن، إلا أنها بدأت تتراجع بسبب عوامل متعددة، حتى اتهمها بعضهم زوراً أو جهلاً بأنها لا تواكب روح العصر.
الاستعمار كان العامل الأبرز على رغم أن طبيعة العربية لغة "مقاوِمة"، صمدت في وجه الفرنكفونية كما يعترف المستعمِر نفسُه. فهذا المستشرق الفرنسي لوي ماسنيون يقول إن "العربية لغة التأمل الداخلي، مجعولة كي يتذوق أصحابها مقصداً إلهياً، ولها قدرة خاصة على التجريد والنزوع إلى الكلية والشمول، لغة الغيب والإيحاء تعبر بجمل قصيرة مركزة عما لا تستطيع اللغات الأخرى التعبير عنه إلا في جمل طويلة فضفاضة".
حافظت لغتنا العربية الغنية على تراثها، لكن ربما ضعفت بعض الشيء، وخصوصاً مع تغرّب الكثير من النخب العربية، واستخدامهم اللغات الأجنبية. ومن العوامل أيضاً مسألة العامّية واللهجات المحلّية على حساب الفصحى. لكن العامل الأساسي، في رأيي، هو ضعف الإنسان العربي وتراجع حضوره في الساحة العالمية، فتبع ذلك، بطبيعة الحال، تراجع اللغة حضوراً. هناك من العرب من يخجلون بلغتهم التي حيّرت المستشرقين ممن استعمروا أرضنا حتى رآها بعضهم أنها لغة خالدة، وأنها لغة المستقبل.
في لبنان، تعيش لغة الضاد أزمة كبيرة سواء في المجتمع بشكل عام، بحيث أغلبية الناس تكتب العربية عبر هواتفها بحروف أجنبية، وتتحدث بالأجنبية أو لغة الخليط، وهي جمل عربية مطعّمة بكلمات أجنبية، أو العكس، كأنه تنقصنا المفردات، أو في المدارس، بصورة خاصة، بحيث يَعُدّها كثيرون من التلاميذ لغة ثانوية لا يلتفتون إلى أهميتها، ولا يعرفون عن سحرها وجمالها سوى ما يطفو على سطح الكتب القديمة والمناهج العقيمة، والمسابقات غالباً ما تتجه نحو العناوين العملية والرياضة والمختبر، وقلّما نجد مسابقة أو نشاطاً يتمحور حول اللغة، كما كان يحدث في الماضي سواء في الشعر، حفظاً وارتجالاً وإلقاءً، أموفي مسابقات أدبية تعمّق العلاقة مع أبجد هوّز.
يأتي "اليوم العالمي اللغة العربية" في كانون الأول/ديسمبر من كل عام ليكون فرصةً لإعادة رسم الهوية الوطنية المشتركة أولاً، وإعادة التفكير والتخطيط لآليات تساعد على نشر عظمة اللغة، وتعريف العالم إلى فرادتها وثرائها وغناها بالمعاني والبديع والنحو والبلاغة. وإحياء استخدامها في المدارس والمحافل والمجتمع ونشرات الأخبار وفي بلاد الاغتراب، وصولاً إلى إعادتها إلى مكانها الطبيعي في مصاف العالمية. إنها لسان آدم وحواء، حينَ عُلّمَ الأسماء.. إنها لغة السماء.