محمد كريّم.. رواية الهوية والانتماء
تستند "والله راجع" في بنائها إلى بُعدَين: أولهما يشير إلى السيرورة الزمنية، والثاني يشير إلى الفضاء المكاني، ولا يمكن تصوّر المكان من دون سيرورة زمانية. وفي "والله راجع" يتحدّد المكان في فلسطين
-
محمد كريّم.. رواية الهوية والانتماء
تبدأ رواية محمد كريّم "والله راجع"، الفائزة بالمرتبة الرابعة في الدورة الثالثة من جائزة سليماني العالمية للأدب المقاوم، في لحظةٍ حاسمةٍ تعبّر عن الرجوع إلى المكان، والإصرار على تحقيق نصر، وتحرير صفد وغيرها من المناطق.
ومن هنا، فقد شكّل العنوان مفتاحاً لرسم بنية أحداث الرواية وتكوين البناء السردي فيها، إذ تنفتح الرواية على مجموعةٍ من الشباب يصلون إلى بيتٍ بعد تخطيطٍ ورصد معلومات، للبدء في عملية واضحة محددة الهدف.
وتستند الرواية في بنائها إلى بُعدَين: أولهما يشير إلى السيرورة الزمنية، والثاني يشير إلى الفضاء المكاني، ولا يمكن تصوّر المكان من دون سيرورة زمانية. وفي "والله راجع" يتحدّد المكان في فلسطين ممثلةً في صفد، وفي بيت "أبو نايف".
أما زمان الرواية فبرز في مرحلتين وبالاستناد إلى تقنيات الزمن السردي، فإذا كانت البداية تشير بزمنها الطبيعي إلى مرحلةٍ راهنة، أي في الزمن الذي تعيش فيه فلسطين ومدنها، وخصوصاً صفد، تحت نير الصهاينة، فإنّ الراوي لم يخصّص التاريخ، لكن اللافت فيه هو تحقيق الرجوع، وقد يتيح هذا للقارئ أن يتصوّر زمناً استباقياً أي استشرافاً لما يجب أن يكون، وهو اللحظة التي تعود فيها الأرض إلى إصحابها. وفي المرحلة الثانية، يعود الزمن إلى مرحلة سابقة وهي 1931، وذلك عبر تقنية الاسترجاع.
ومن الفضاء النصي الزماني والمكاني يتكشف لنا الفضاء الذي تنتجه لغة القصّ فيتحوّل المكان، وخصوصاً بيت أبي نايف، مكاناً رامزاً إلى المجتمع الفلسطيني بكل مكوّناته. فهو نموذج للبيئة الفلسطينية وما تعتمد عليه من حياة اقتصادية قائمة على الزراعة وصناعة الصابون، وقد استطاع التناغم بين السرد والوصف تقديم التفاصيل الدقيقة عن هذا المجتمع، تعليمياً واجتماعياً وأسرياً. ولم يكن هذا الفضاء المكاني عبثاً، بل شكّل ذاكرة فلسطين "هذه ليست جغرافيا. هذه مكوّنات ذاكرتنا وأحلام عشنا نتذاكرها طويلاً". والقارئ للرواية يخرج بهذه الذاكرة ويعيش مع عائلة أبي نايف التفاصيل اليومية، ويعود إلى التراث وإلى العادات والقيم السائدة بين أبناء هذه المنطقة.
ولم يكن الزمان إلا إشارة إلى تجذّر الفلسطيني في أرضه وأحقيته بذلك، "لعلمك أن أصغر فلسطيني هو أكبر من دولة الاحتلال"، فاسترجاع أحداث العام 1931 وما بعدها، هو دلالة على ثبات الحق وهوية الدخيل على الأرض. ويشكّل السرد الحركة الزمانية في الحكي، أما الوصف فيشكّل صورة المكان، وهذا الوصف ما هو إلا تثبيت بالانتماء إلى المكان، وإلى صعوبة التخلي عنه، والعيش في المكان يحتّم الرجوع إليه.
وهذا ما يحيلنا من جديد إلى عنوان الرواية "والله راجع"، قسمٌ بالعودة، إلى أين؟ إلى هذا المكان الذي ننتمي إليه، فأبو نايف يقسم "مشيراً لهم بالتروي، وبإصرار: راجعون. أقسم بالله العظيم أنا راجعون". وعبد السلام (العبد) يقسم أيضاً "أنا لا أستطيع التخلي عنها. ولكني، يا عمي، راجع.. راجع". ولن يتوقف هذا الإصرار على الرجوع، ويستمرّ هذا الترديد لقسم العودة فنسمع صدى الصوت يرتدّ مع حفيده أبي العبد: "والله العظيم راجع".
لعبة سردية أتقنها الكاتب، فبدأ روايته مع هؤلاء الشباب الذين ربضوا في البيت، لنكتشف بأنّ أبا العبد تقصّد اختياره، ليحقّق الوعد الذي أقسمه لجده، وما هو إلا قسم عُلّقَ في رقبة أبناء فلسطين، وعليهم الإيفاء به، ويترك الكاتب القارئ يعيش حكاية صفد وحكاية هذا البيت، وفي ختام الرواية، يكتشف الصلة بين الماضي والحاضر.
وإذا كان للزمان والمكان رمزيتهما المرتبطة بالعودة، فإنّ الشخصيات أيضاً أخذت هذا البعد الرمزي لتؤكد استمرارية الجهاد والنضال والقتال، فاتّسمت هذه الشخصيات بالإصرار على المقاومة، وأصبح خيار المقاومة هو الخيار الذي لا بديل له، فيقول أبو نايف: "إخوتي في الله. ليس أمامنا احتمالات. إما أن نقاوم أو أن نقاوم". وحتى لعب الأطفال تحول إلى ما يدل على هذه الروح المقاومة، "تغيرت طبيعة ألعاب العبد، مع إخوته، من (عسكر وحرامية) إلى (يهود وفدائية)، إلا أنّ أياً من الإخوة لم يكن ليقبل أن يلعب دور اليهود، كان أسهل على أحدهم أن يلعب دور صخرة أو شجرة على أن يلعب دور يهودي".
وقد يقول قائل بأن هذه الرؤية السردية التي تقدّمها شخصيات الرواية تؤدّي إلى طغيان منظور إيديولوجي واحد في العمل الأدبي بحيث تصبح كل القيم خاضعة لوجهة نظر واحدة، ولعله أقرب إلى ما يسمّيه باختين بالصوت المنفرد، لكن هذا مردودٌ عليه من زاويتين، الأولى هي أنّ حبكة الرواية القائمة على البعد المقاوم تتطلب هذا الأمر، فيعلو الصوت المقاوم على كل صوت.
ومن الزاوية الأخرى، نجح الكاتب في تقديم صوت مضادّ يعبّر عن الرؤية التي أسهمت في تسهيل العمل لترسيخ الكيان الصهيوني في أرض فلسطين، ومن خلال ذلك، يحاول الكاتب أن يقيم إسقاطاً تاريخياً لما نراه اليوم من أصوات غرّدت خارج سرب المقاومة، أو خارج سرب الهوية والانتماء، ومدّت اليد لمصافحة العدو، فكانت العودة إلى ما حدث في أثناء مواجهة الامتداد اليهودي بمساعدة الإنكليز، وكأننا نرى التحالفات نفسها تتكرّر في زماننا، فالمعارك مستمرّة والثورة قائمة مع غياب عربي وإسلامي وعالمي، وإذا جاءت المعونة للثورة الفلسطينية من جهات قريبة، فإنّ الخيانة أعظم.
إنّ رواية "والله راجع" تدعو المتلقي الواعي إلى كشف العلاقات بين الماضي والحاضر، مع وجود القاسم المشترك في تثبيت الهوية والانتماء، وتأكيد أحقية الرجوع إلى المكان. وفي هذه اللعبة السردية واعتماد أزمنة مختلفة، يقدّم الكاتب محمد كريّم وجبة دسمة من الثقافة التاريخية والتراثية والشعبية والاجتماعية.