معرض فوزي بعلبكي: الحياة على جدران الموت
اختيار منطقة المرفأ بالذات مكاناً للمعرض، كما أسلفنا ليس مصادفة؛ إنه تحدٍّ صامت، إعادة نبض الحياة إلى المكان بالتفاؤل والأمل. كأن الفنان يقول: هنا، حيث سقطت الأنقاض، ستنبت زهور الألوان.
-
من معرض فوزي بعلبكي في بيروت
في منطقة المرفأ البيروتي، حيث لا تزال ذاكرة الرابع من آب/أغسطس تنزف تحت حطام لم يزل صامداً، تم افتتاح "ملتقى دلول للفنانين" شاهداً على جراح لم تندمل.
هنا، بين الجدران التي اختزنت هدير الانفجار الكبير، يطل الفنان التشكيلي، فوزي بعلبكي، من 50 نافذة من قماش وألوان وأكريليك. نوافذ تفتح على عوالم لم يمسها سوء. إنه "الهروب إلى الفرح" الذي يشبه زلزالاً ناعماً: هروب من ضجيج الحرب إلى صمت الطفولة، من رماد الأزمة إلى بهاء الألوان، من شظايا الإسمنت إلى فسيفساء البراءة التي تذهل العين والروح معاً.
وُلد بعلبكي عام 1940 في قرية العديسة الجنوبية، حيث الحدود تذكر دائماً بأن شيئاً ما ينزف خلف التلال وأن التراب يكتسي لون الدم والأرض تحتضن أجداث الشهداء. ربما من هناك تشرّب فن المقاومة بالجمال. سيرته تشبه لوحة لم يكتمل تناغمها: هجر المدرسة إلى مهن بيروت القاسية، عاد إلى "دار المعلمين" فطردته السياسة من أبوابها، تنقل بين خشبات المسرح مع رواده مثل جلال خوري وريمون جبارة، دخل السلك القضائي عام 1970 ليترك القانون وينصرف إلى قانون اللون.
حتى الفن لم يسلم من تيهه: مرتين اقتحم معهد الفنون الجميلة (1968 و1977)، ومرتين خرج منه – مرة للمسرح، ومرة لأن الحرب الأهلية طوقت المدينة. لكن يد القدر دَلَّته على الباب الذي شُرِّع له: الباب الذي تُفتح وراءه عوالم لا تُرى إلا بالقلب. رحلة إلى باريس بمنحة رسمية عام 1983 كانت محطة تزود بأدوات النجاة، ليعود ويعلن في أول معرض فردي له عام 1993: لقد وجد أخيراً وطناً لا تهزه القنابل – وطناً اسمه اللوحة.
واليوم، في قاعة ملتقى دلول، يتحول ذلك الوطن إلى كون مكتمل. قرابة 50 لوحة تنادي: هنا أشجار من ألوان تثمر فرحاً، هنا كائنات سريالية تتراقص كأنها في حلم ميرو، هنا خطوط تنساب كأنها نوتات موسيقية من دفتر بول كلي.
في عمله الضخم "أهل الكهف" (150 × 200 سم) تتحول الأسطورة الكابوسية إلى كرنفال ألوان وكائنات تلاعب الظل والنور. أما لوحات "تأليف" (2024) فتكشف عن حوار صامت بين الدوائر الصفراء كالشموس، والمستطيلات الحمراء كالقلوب، في فضاء من الأزرق السماوي الذي يوسع الصدر المكلوم.
إنها أسلحة من نوع آخر: أصفر ليموني يخترق السواد، أحمر ناري يشعل شموع الأمل، أخضر نابض كأوراق شجر تنبت بين الركام. خطوطه التي تشبه خربشات طفل ليست سذاجة، بل هي حكمة من عرف أن الحرب لا تُقهر إلا ببراءة اللون.
إن اختيار المرفأ مكاناً للمعرض قصيدة بصرية بحد ذاتها. هناك، حيث دمرت القوة العمياء الحياة، يرفع بعلبكي أعلام الفرح عالياً. كأنه يكمل مسيرة شقيقه الراحل الفنان، عبد الحميد بعلبكي، الذي حوّل منزله المدمر في العديسة بعد عدوان 2006 إلى منصة للمقاومة بالجمال؛ فعاد الوحش الإسرائيلي ليقتص منه في العام 2024 ويدمر المنزل بكل ما فيه من ثقافة وفن وجمال…وذاكرة لن تموت.
"الهروب إلى الفرح" عند بعلبكي ليس جبناً، بل هو اقتحام للاممكن: خلاص بالفرشاة، تمرد على منطق الحروب، صيحة في وجه اليأس: "إذا سددتم نوافذنا بالحديد، فسنفتح ثقوباً في الجدار بألوان قوس قزح!".
أيضاً هذا الهروب ليس استسلاماً، بل هو فعل مقاومة. مقاومة بالفرشاة والألوان. 50 لوحة تقريباً تشكّل خريطة لهذه الهجرة العاطفية المطلوبة بشدّة. تأخذك يد بعلبكي من عالمنا المأزوم، عالم بيروت والمنطقة المثقل بهموم الحروب المستمرة، والانهيار الاقتصادي الخانق، والقلق الوجودي الذي يلتفّ كضباب كثيف، لتلقيكَ برفق في كونٍ موازٍ. كونٍ طفوليٍّ فُطر على البساطة والدهشة، حيث تسود ألوان البهجة الصارخة، والسرور الطافح، والأشكال التي ترقص بلا ثقل على سطح القماش.
في هذه اللوحات التي تشبه أناشيد بصرية، يعود بنا بعلبكي إلى ذاكرة الجسد الأولى – إلى طفولة لم تلوثها خرائط الحرب. إنه لا يهرب من الألم، بل يغوص في أعماقه ليستخرج منه لآلئ الضوء. فرحه ليس إنكاراً للواقع، بل هو كشف عن طبقة أخرى من الوجود: حيث الحياة أقوى، والجمال أصلب، والروح لا تُقهر. سيرة الفنان المتشظية بين القضاء والمسرح والفن تنصهر في بوتقة اللوحة لتذكّرنا بأن الفرح ضرورة كالماء والهواء، وأن اليد التي ترسم الزهور على جدار السجن هي يد المنتصر الحقيقي.
تلك المخلوقات المرحة التي تركض على سطح لوحاته – في "أهل الكهف" أو "تأليف" أو "التعاكس" – ما هي إلا أرواحنا نحن، تدعونا لنرقص معها فوق أنقاض هذا الزمن الرديء. لأن بيروت، في النهاية، تعرف أن الفرح هو آخر حصن يسقط. وكما كتب شقيقه الراحل عبد الحميد: "الفن هو ما يبقى حين تفشل الكلمات"، يبرهن فوزي بعلبكي أن الدهشة تُبعث من الرماد، وأن الفرح وطن لا يحتاج إلى تأشيرة. ففي كل لون يلامس العين، تُزرع زهرة جديدة فوق شظايا الإسمنت والمعدن.
لكن جمالية بعلبكي ليست مجرّد استعادة لأسلاف عظام. إنها صياغة معاصرة لضرورة إنسانية ملحّة. في سياق لبنان المتألم، حيث المرفأ نفسه يحمل ندوباً مروّعة، يصبح هذا "الهروب إلى الفرح" الذي يقدّمه المعرض أكثر من مجرّد عنوان؛ إنه بيان وجود، وإعلان انحياز صارخ للحياة، للحلم، للجمال، في وجه الدمار واليأس.
اختيار منطقة المرفأ بالذات مكاناً للمعرض، كما أسلفنا ليس مصادفة؛ إنه تحدٍّ صامت، إعادة نبض الحياة إلى المكان بالتفاؤل والأمل. كأن الفنان يقول: هنا، حيث سقطت الأنقاض، ستنبت زهور الألوان.
معرض "الهروب إلى الفرح" ليس دعوة للنسيان. إنه، على العكس، "اعتراف بالثقل ومحاولة للتحليق فوقه". إنه تأكيد على أن الروح الإنسانية، مهما سُحقت، تبحث عن منفذ للضوء، عن مساحة للتنفس، عن لغة للفرح حتى في أحلك الظروف.
فوزي بعلبكي، عبر هذه الخمسين لوحة، لا يقدّم وصفة سحرية، بل يفتح نافذة. نافذة تطلّ على عالم داخليّ غنيّ، عالم يمكننا، ولو للحظات، أن نهرب إليه حاملين معنا بذرة فرحٍ نزرعها مجدداً في أرض واقعنا الوعرة. إنه دعوة ملحّة للانحياز إلى الحياة، لأن الفرح، في النهاية، هو أكثر أشكال المقاومة جذرية.
*معرض "الهروب إلى الفرح" للفنان فوزي بعلبكي مستمر حتى 29 آب/أغسطس المقبل في "ملتقى دلول للفنانين"، في محلة المرفأ، بيروت.