معنى الإنسان!
إنّ البشرية، وقد أيقظها رعب المشهد، تُعلن من خلال حشودها أنها تختار الحياة، وتختار الكرامة، وأنها قادرة على تشكيل مصيرها بيدها، لتُعيد الاعتبار لتلك الكلمة البسيطة والعميقة: الإنسان.
-
الموجات البشرية الهائلة التي تكتسح عواصم العالم هي هبّة الضمير الإنساني الأعظم
في هذا الزمن الأغبر، حيث تدور عجلة التاريخ إلى الوراء، يصبح الحديث عن "الإنسان" بوصفه قيمة عليا حديثاً ثوريّاً بحدّ ذاته. لقد بلغت البشرية منحنى خطيراً، لم تعد فيه المخاوف نظرية أو مستقبلية، بل هي واقع ملموس يطال كلّ مكوّن من مكوّنات كينونتنا.
إننا نشهد، وبكلّ مرارة، انهيار السرديات الكبرى التي قامت عليها الحضارة الحديثة، وهو ما تنبأ به ميشال فوكو حين رأى أنّ "الإنسان اختراع حديث، وشكله الذي عرفناه منذ قرنين ليس سوى طلاء في تاريخنا، سيزول متى ما تشكّلت المعرفة في نموذجها الجديد، مثل وجه يُمسح من على رمال الشاطئ". وهذا الطلاء اليوم يتقشّر أمام أعيننا، مظهراً الوحشية التي كانت مخبّأة تحته.
لم يعد التوحّش الإمبريالي يحتاج إلى مُبرِّر أيديولوجي معقَّد، فهو يعمل الآن بوقاحة تامّة، خالعاً عنه كلّ أقنعة "التحرير" و"نشر الديمقراطية" و"عبء الرجل الأبيض". لقد سقطت القفازات، وبرزت المخالب عارية، تُشَنُّ الحروب صراحةً لأجل المال والثروات، تُدمّر فيها أوطان وتُباد شعوب على مذبح أسواق النفط والغاز والسلاح. إنها عودة إلى قانون الغاب، ولكن بأحدث تقنيات الدمار وأكثرها تطوراً.
وفي الجبهة الداخلية، لم ينجُ الفرد من هذه الآلة المطحونة. لقد حوصر الإنسان في دائرة مفرغة من الاستهلاك، تحوَّل فيها من كائن مفكِّر طامح، إلى مجرّد "وُحَيْش" يبحث عن قوته ودوائه. لقد صادرت منه الشركات العملاقة حلمه، وهمّشت الأنظمة البيروقراطية إنسانيته، حتى غدا رقماً في إحصائية، أو مستهلكاً برقم تعريف، تُقاس قيمته بقدرته على الشراء، لا على العطاء أو التفكير أو الحلم.
ووسط هذا السحق الممنهج، تبدو كلّ القيم التنويرية التي آمن بها الإنسان المعاصر – من حرية، ومساواة، وكرامة، وحقوق – وكأنها أوراق خريف جافة، جرفتها رياح الجشع واللامبالاة. لقد باتت في "خبر كان" تلك اللحظة التاريخية التي صدق فيها الإنسان أنه يمكن بناء عالم قائم على العقل والأخلاق.
لكن من رحم هذا اليأس، يجب أن تنبت البذرة. إنّ السؤال ليس عن تشخيص المرض فحسب، بل عن العلاج الجذري. وهو يتلخّص في ضرورة العمل على ولادة تيارات إنسانية عابرة لكلّ الحدود: العرقية، والدينية، والاجتماعية، والسياسية. تيارات لا تنتمي لشرق أو غرب، شمال أو جنوب، بل تنتمي للإنسان وحده.
هذه التيارات لن تكون أحزاباً سياسية تقليدية، بل يجب أن تكون حركات ضمير، وجبهة أخلاقية عالمية. تشكّل تحالفاً غير مسبوق بين المثقّفين، والفنّانين، العلماء، الشباب، والعمال، والمزارعين، وكلّ من لا يزال ينبض في صدره قلب لإنسانيتنا المشتركة. هدفها ليس الهيمنة، بل الإنقاذ. ليس السيطرة، بل التحرير. إنها دعوة لإعادة تعريف التقدُّم، ليس بمعنى تراكم الثروات، بل بمعنى تراكم الكرامة، مجسّدةً بذلك القاعدة الأخلاقية التي نادى بها إيمانويل كانط: "تصرّف بحيث تعامل الإنسانية، سواء في شخصك أو في شخص أيّ إنسان آخر، دائماً كغاية وليس مجرّد وسيلة أبداً".
إنّ حقّ الإنسان في حياة حرّة وكريمة هو الأساس الذي لا يمكن المساومة عليه. وهو الحقّ الذي يتجاوز كلّ القوانين الوضعية والحدود المصطنعة. إنه الحقّ في أن يعيش بسلام، أن يُعَبِّر عن ذاته، أن يحصل على الغذاء والدواء والتعليم، وأن يكون له صوت في مصيره.
هذه الصحوة الإنسانية ليست رفاهية، بل هي ضرورة للبقاء. إما أن ننهض معاً كبشر، متحدين في إنسانيتنا، متجاوزين كلّ ما فرّقته السياسة والدعاية والجشع، أو أن نسقط معاً في الهاوية التي تنتظرنا جميعاً بفم مفتوح.
ها هو الغطاء قد انزاح عن الحقيقة الأكثر قسوة: لقد انكشفت الوحشية بكلّ عريها، وصار السكوت أمامها ليس خيانةً فحسب، بل انتحاراً جماعياً ترفضه غريزة الحياة ذاتها. لقد رسمت "إمبريالية اللاحُدود" خطاً أحمرَ بالدماء في غزة وفي كلّ أرض تُنتهك كرامتها، جاعلةً من صمت العالم إزاءها جريمة تُشارك في حفر قبر البشرية بأيدٍ مرتعشة.
لكن هذه المرة، اختلفت المعادلة؛ فما بعد غزة ليس كما قبلها. لقد أدركت شعوب الأرض، بغريزتها السليمة وبصيرتها النافذة، أنّ المعركة في فلسطين هي جبهة المواجهة الأمامية في معركة الوجود هذه، وأنّ النضال هناك هو دفاع عن إنسانيتنا المشتركة التي تُسحق تحت سنابك الآلة الإمبريالية ذاتها التي تهدّد مستقبل الكوكب بأسره.
الموجات البشرية الهائلة التي تكتسح عواصم العالم ليست تظاهرات عابرة، بل هي هبّة الضمير الإنساني الأعظم، إنها إعلانٌ صريح أنّ الشعوب قد تجاوزت مرحلة الصدمة والذهول إلى مرحلة الرفض الجذري والمواجهة المصيرية.
إنها تقول للطغمة المالية والعسكرية التي تدفع بالعالم نحو الهاوية: "كفى! لقد عبَرنا نقطة اللاعودة، ولن نعود إلى زمن الخنوع والانقسام". النهوض أصبح ضرورة وجود، والمواجهة هي الخيار الوحيد لاستعادة القيمة الحقيقية للإنسان، الذي يجب ألّا يقبل بعد اليوم أن يكون وسيلةً في آلة الطغيان، ولا وقوداً لأتون حروب الآخرين.
إنّ البشرية، وقد أيقظها رعب المشهد، تُعلن من خلال حشودها أنها تختار الحياة، وتختار الكرامة، وأنها قادرة على تشكيل مصيرها بيدها، لتُعيد الاعتبار لتلك الكلمة البسيطة والعميقة: الإنسان.
فهل يولد من هذا المخاض الهائل معنى جديد لـ "الإنسان"؟ أم نواصل الصعود نحو الهاوية؟