هل النساء القارئات خطيرات؟

لم تكن القراءة يوماً فعلاً محايداً للمرأة، بل كانت أداة تحرُّر وسلاحاً يُخشى تأثيره، لكنه أثار مخاوف المجتمعات في أكثر من عصر وزمن. لماذا؟ وكيف؟

منذ فجر التاريخ، كانت القراءة وسيلة لاكتساب المعرفة وتوسيع الآفاق، لكنها لم تكن بالنسبة إلى النساء مجرد نشاط ثقافي، بل شكّلت أداة للتحرر والتعبير عن الذات، غير أن المرأة القارئة لطالما كانت موضع جدل، إذ عُدّت القراءة في بعض الفترات خطراً يهدد البنى الاجتماعية التقليدية. 

وبينما منحت المعرفة المرأة القوة لكسر القيود المفروضة عليها، أثارت، في الوقت نفسه، مخاوف المجتمع الذكوري، الذي سعى لتقييد وصولها إلى مصادر الفكر والعلم. 

في الواقع، كان البعض يعتقد أن النساء، إذا قرأن أكثر من اللازم، فقد تنتهي بهن الحال إلى "التفكير المفرط"، وهو ما قد يؤدي، بحسب بعض الآراء، إلى "تشويش قدرتهن على تحضير العشاء". وعلى رغم هذه المخاوف، فإن القراءة كانت، بالنسبة إلى النساء، سلاحاً للتمرد، ربما أكثر قوة من سكين المطبخ!

المرأة القارئة عبر التاريخ

في المجتمعات القديمة والوسطى، ظلت القراءة حكراً على الرجال في معظم الأحيان، لأن النساء كان من المفترض أن يهتممن بالطهو والتنظيف وتربية الأطفال، وليس بقراءة الكتب التي قد تُفسد عقولهن!

ومع ذلك، أظهرت عدة حضارات استثناءات مهمة، بحيث أُتيح لبعض النساء، في مصر القديمة، وبلاد ما بين النهرين، وأوروبا، فرصة التعلم ضمن سياقات محددة، مثل القصور والمعابد. 

ففي مصر، تشير النصوص إلى وجود كاتبات ومعلمات في البلاط الملكي، بينما وثّقت الألواح المسمارية في بلاد ما بين النهرين أدواراً علمية لكاهنات متعلمات داخل المعابد. 

أما في أوروبا، فتُظهر لوحة البشارة للفنان سيموني مارتيني (1333) مريم العذراء ممسكةً بكتاب، الأمر الذي يعكس تقبّل المجتمع فكرة القراءة النسائية حين تكون مرتبطة بالدين.

أما في العالم الإسلامي، فشهد العصر الذهبي في الإسلام ازدهاراً علمياً سمح للنساء بالمشاركة في الحياة الفكرية، بحيث أدى بعضهن أدواراً بارزة في نشر العلم والمعرفة. وبين هؤلاء فاطمة الفهرية، التي أسست جامعة القرويين في فاس في المغرب عام 859م، وكان لها دور في نشر المعرفة بين الرجال والنساء، على حد سواء. 

كذلك الأمر مع زبيدة، زوجة هارون الرشيد، "راعية للأدب والفنون"، والتي ساهمت في دعم المؤلفات والمخطوطات. 

بعد ذلك، ظهرت ولّادة بنت المستكفي في قرطبة (الأندلس)، والتي كانت أول امرأة تجعل بيتها مركزاً أدبياً يلتقي فيه الشعراء والبلغاء وأصحاب السلطة، فتبارزهم في الشعر، وتناقشهم في الأدب والسياسة، وتغلبهم في كثير من الأحيان. كما كان منزلها مفتوحاً للنساء من مختلف الطبقات، اللواتي يرغبن في تعلم القراءة والكتابة والموسيقى. 

وأخيراً، عائشة الباعونية، العالمة والشاعرة المصرية في القرن الــ 15، والتي تركت عدداً من المؤلفات في التصوف والأدب.

القراءة.. فعلاً تحرُّرياً

لم تكن القراءة مجرد وسيلة للمعرفة، بل شكّلت باباً نحو التحرُّر، فمنحت النساء القدرة على توسيع مداركهن، والتعبير عن أفكارهن، والتشكيك في القيود الاجتماعية المفروضة عليهن. 

في أوروبا، أدّت شخصيات، مثل مدام دو بومبادور، خليلة لويس الــ 15، والتي كانت قارئة نهمة وداعمة للأدب، والكاتبة كوليت، التي استخدمت كتاباتها لكسر الصور النمطية عن الأدوار الجندرية، أدواراً في تغيير النظرة إلى المرأة المثقفة. 

هكذا، لم تمنح القراءة النساء المعرفة فقط، بل أعطتهن أيضاً أدوات لكسر القيود المفروضة عليهن. على سبيل المثال، استخدمت الكاتبة الإنكليزية جين أوستن (1775-1817)  معرفتها الأدبية ومعرفتها الفلسفية في كتابة رواياتها، التي ناقشت الأدوار التقليدية للمرأة في المجتمع الإنكليزي، بأسلوب ناقد وذكي. 

أما فرجينيا وولف (1882-1941)، فقدّمت، في كتابها "غرفة تخص المرء وحده"، تحليلاً عميقاً لأهمية الاستقلال للمرأة، فكرياً واقتصادياً، مؤكدة أن القراءة والكتابة هما وسيلتان أساسيتان للتحرر. فلا عجب إذاً في أنّ القراءة قادت عدداً من النساء إلى الكتابة، بحيث ساهمن في صياغة الفكر وتحدي المعايير الاجتماعية السائدة.

في العالم العربي، استخدمت مجموعة من الكاتبات القراءة والكتابة أدوات لمواجهة الواقع الاجتماعي، مثل الأديبة العاملية زينب فواز (1860-1914)، مؤلفة كتاب "الدر المنثور في طبقات ربات الخدور"، والذي عرضت فيه سِيَر النساء البارزات عبر التاريخ ، ثم مي زيادة، التي كانت قارئة وكاتبة تركت بصمة واضحة في الحركة الفكرية النسوية. كذلك، برزت عائشة التيمورية، التي كانت من رائدات النهضة النسائية في مصر، وأخيراً، نوال السعداوي، التي  اشُهرت بكتاباتها الجريئة، التي تناولت قضايا المرأة، والدين، والسلطة.

القراءة بصفتها "خطراً اجتماعياً"

على رغم دورها التحرُّري، فإن القراءة قوبلت، في بعض الفترات التاريخية، بمخاوف مجتمعية، بحيث عُدّت "تهديداً" لاستقرار البنى التقليدية. ففي القرن الــ 18، حذّر بعض المفكرين والأطباء من أن القراءة قد تضرّ بصحة المرأة، عقلياً وجسدياً، وعُدّت في بعض الدراسات الغربية "مرضاً" يصيب النساء، ويؤثر في أدوارهن التقليدية في الأسرة والمجتمع. 

أما في الأدب، فتجسّدت هذه المخاوف في شخصية "إيما بوفاري"، بطلة رواية "مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير، والتي أهملت الادوار التقليدية للمرأة، من طهو وعناية بالاطفال، وقادها شغفها في الكتب الرومانسية إلى حياة عاطفية مضطربة انتهت بمأساة. هذا الخوف لم يقتصر على عامة الناس، بل امتد أيضاً إلى الفلاسفة والمفكرين الذكور، الذين رأوا في المرأة المثقفة تحدياً للمنظومة السائدة. 

الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار (1908-1986)، على سبيل المثال، أثارت الجدل في كتابها "الجنس الآخر"، الذي ناقش كيف أن المجتمع الذكوري يستخدم الثقافة والتقاليد لتقييد المرأة. 

أما في العالم العربي، فلم تكن ردود الفعل متباينة كثيراً، بحيث واجهت الكاتبات انتقادات اجتماعية، وحتى رقابة سياسية. في هذا الصدد، يمكن ذكر الكاتبة السعودية، رجاء الصانع، التي أثارت روايتها "بنات الرياض" جدلاً واسعاً بسبب كسرها بعض التابوهات الاجتماعية، الأمر الذي أدى إلى حظرها في بعض الدول العربية. 

المرأة القارئة اليوم

مع تغير المجتمعات، اكتسبت المرأة القارئة مكانة أكثر قبولاً، وأصبحت القراءة جزءاً أساسياً من الحركات النسوية والمطالبات بالمساواة. لم تعد المرأة المثقفة حكراً على فئة معينة، بل باتت رمزاً للوعي والقدرة على التغيير. 

من الصور التي كسرت القوالب النمطية عن المرأة تلك التي تُظهر مارلين مونرو وهي تقرأ كتاب "يوليسيس" لجيمس جويس. هذا المشهد الشهير أبرز جانباً ثقافياً وفكرياً من شخصيتها، بعيداً عن صورتها المعتادة كرمز للجمال والأنوثة، وعكس رغبتها في محاربة الأدوار التقليدية للنساء وتأكيد استقلالها الفكري.

عربياً، استمرت القراءة وسيلة لتمكين النساء، سواء من خلال الكاتبات اللواتي يطرحن قضايا المرأة، مثل بثينة العيسى في الكويت، أو عبر المبادرات التي تهدف إلى تعزيز الثقافة بين النساء، مثل مشروع "مكتبة المرأة" في مصر، والذي يسعى لتوفير الكتب والمصادر التعليمية للفتيات في المناطق الريفية.

لكن، مع ذلك، تشير تقارير منظمة "اليونيسكو" لعام 2024 إلى أن نسبة الأمية بين النساء في بعض الدول العربية لا تزال مرتفعة، مثل اليمن، بحيث تصل إلى 70%، الأمر الذي يُبرز التحدّيات التي تواجه المرأة القارئة، بينما أظهرت دراسة أجراها مركز "بيو" للأبحاث في الولايات المتحدة عام 2021 أن النساء يقرأن أكثر من الرجال في معظم المجتمعات الغربية، الأمر الذي يعزُّز فكرة، مفادها أن القراءة تحوّلت إلى سلاح للتمكين النسائي.

المصادر

Adler, Laure, & Bolleman, Stephan. (2005). Les femmes qui lisent sont dangereuses. Flammarion.

Robins, Gay. (1993). Women in Ancient Egypt. Harvard University Press.

Flaubert, Gustave. (1857). Madame Bovary.

de Beauvoir, Simone. (1949). The Second Sex (Le Deuxième Sexe).

Woolf, Virginia. (1929). A Room of One's Own.

اخترنا لك